كل عام وأنت جميلة أيتها العربية الشاعرة

رسالة الخطأ

Deprecated function: preg_match(): Passing null to parameter #2 ($subject) of type string is deprecated in rename_admin_paths_url_outbound_alter() (line 82 of /home/amicinf1/public_html/sites/all/modules/rename_admin_paths/rename_admin_paths.module).
أحد, 2014-12-21 21:35

يحق لنا اليوم أن نحتفل باليوم العالمي للغة العربية، الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 18 ديسمبر/كانون الأول من كل سنة، كلغة عالمية رسمية متداولة في جميع المحافل الدولية، بعد نضال يعود إلى خمسينيات القرن الماضي.
هو حق له وزنه ومبرراته، فهي اللغة الخامسة من حيث رواجها وعدد مستعمليها بعد الصينية والإنكليزية والإسبانية والهندية، من دون أن نخوض في أسباب هذا الانتشار التي تعود إلى عوامل سياسية واقتصادية وديموغرافية وعرقية…
ولكننا سنتحدث في الطبيعة النوعية للغة العربية، من حيث كونها اللغة السامية العريقة التي استطاعت أن تحافظ على بقائها ونقائها منذ قرون عديدة خلت، في وقت انقرضت فيه لغات قديمة لأسباب كثيرة ومعروفة تتعلق بطبيعتها القاصرة عن تلبية حاجات الإنسان للتواصل بها دينيا وفكريا وأدبيا وسياسيا.
إن ما يضمن للغة العربية هذا الألق المتواصل هو امتلاكها أولا لسند ديني متمثل في أن الله عز وجل اصطفاها لوحيه ولكتابه الكريم ولدينه الخاتم للديانات، ثم من جهة أخرى لكونها تختص بعناصر جمالية يعز وجودها تامة في لغات أخرى، وهذا سر عبقريتها، فثراؤها البليغ في جمال صوتها، وغزارة مرادفاتها واشتقاقاتها، وتنوع صيغها النحوية والصرفية، وفصاحة أساليبها البلاغية..
كل ذلك جعل منها لغة مرنة للتعبير عن أدق المشاعر الإنسانية، ولاستيعاب المفاهيم العلمية قديما وحديثا، فلا عجب في كونها كانت لغة الحضارة في العصر القروسطي، فقد قال في حقها الفرنسي لويس ماسينيون « اللغة العربية هي التي أدخلت في الغرب طريقة التعبير العلمي، والعربية من أنقى اللغات، فقد تفردت في طرق التعبير العلمي والفني».
هو إذن غنى معجمي ودلالي جعل منها أيضا لغة شاعرة بامتياز، وليس ذلك بكثرة شعرائها، ولكن لأنها بنيت على نسق موسيقي وبلاغي، انبنى على انسجام حروفها وكلماتها وتراكيبها، وصرامة آليتها الإعرابية المحكمة، مما يجعلها تحدث وقعا حسنا في النفس وأثرا دالا في الذهن، هي إذن بعض من خصائصها الجمالية التي مكنتها في عهد سابق، ولا تزال، من أن تكون لغة تواصل عالمي، فكريا وأدبيا وعلميا وسياسيا..
وبطون المصادر خير شاهد على ريادتها في تطوير الحضارة الإنسانية، إذ لازال الكثير من مصطلحاتها العلمية سائرا وجاريا لحد اليوم.
«فكيف يستطيع الإنسان أن يقاوم جمال هذه اللغة، ومنطقها السليم، وسحرها الفريد».
هي شهادة قوية لا تعبر عن نزعة أنانية، ولكنها شهادة أتت من انطباع أجنبي جرى على لسان المستشرقة الألمانية زيغرد هونكه، وشهادة الغريم أقوى وأثبت.
وتبرز أبهة اللغة العربية جماليا في قدرتها على تطويع ما يصعب تصويره من خطرات الوجدان والفكر الإنسانيين، وعلى اختراق مسامع وذائقة مستمعيها، لما لها من روحانية قدسية تتفتق من مرونة حرفها، وشعرية تراكيبها، وحمولة أدبها المتشبع بقيم إنسانية تستجيب لها النفوس فطريا، ولنا في بيت المتنبي أحد شعرائها الكبار دقة المرمى وصدق المعنى، وهو يقول بلسانه، ولسانه لسان حالها: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي … وأسمعت كلماتي من به صمم.
واليوم بالذات، ونحن نحتفل باليوم العالمي للغة العربية، إنما نذود عن هوية حضارية تتآكل، وثقافة تعصف بها أيد خفية خلفتها آلة الثقافة الاستعمارية سابقا وراهنا، بين دعاة للعامية صموا آذانهم عن جماليتها وبين جاحدين بأهليتها يرمونها بالعقم، من دون أن يسألوا الغواص عن صدفاتها كما يقول حافظ إبراهيم، بل ويجشموننا عناء البدء من الصفر لتقعيد لهجات تناسلت بفعل تنكرنا لتراث عربي خالد لا يتزحزح عن مساره كمكتسب إنساني عالمي ساهمت فيه أعراق وجغرافيات أحبت ورضت بالعربية لسانا لها بمعزل عن ديانتها وألسنها المحلية، ويظل العيب قائما في دعاة العامية، هؤلاء الأبناء المغتر بهم لدواع صليبية وصهيونية، أو لأسباب شخصية، أدعوهم فقط للرد على ما قاله البلجيكي جورج سارتون في حق العربية «إن اللغة العربية أسهل لغات العالم وأوضحها، فمن العبث إجهاد النفس في ابتكار طريقة جديدة لتسهيل السهل وتوضيح الواضح».
والحالة هذه، لا أعتقد أن قوة الحضارة ستتبلور في أمة منبطحة مستسلمة لغواية لغة أخرى، ولثقافة غازية لها خصوصياتها أيضا، بل العبرة، تاريخيا، تعلمنا أن التمسك بثوابت الأمة ورموزها، ومن بينها اللغة، لهو الضامن الوحيد لاستمراريتها وإشعاعها، وعدم طمسها وانقراضها، في زمن تتهافت وتتصارع فيه اللغات والثقافات للسبق والتمكين لتمرير رموزها وصورها إلى باقي الدول التي تفتقر لقوة حضارية قديمة أو راهنة تراثيا ولغويا…
ليكن إذن بالمقابل غزونا للآخر جماليا لا سياسيا وإرهابيا…
لأن ما هو جميل يدوم ويعلق في النفوس والأذهان، وما هو تعسفي يعد عارضا يتلاشى مباشرة بعد أن تتهاوى قوة الأمة سياسيا وعسكريا واقتصاديا…
وجمال اللغة العربية يخرج من حسابات كل عصبية متطرفة لها أهداف ضيقة، لأن الذي ملأ اللغات محاسنا، جعل الجمال وسره في الضاد.
*كاتب مغربي

سعيد السوقايلي*