كشف الرئيس الأمريكي باراك أوباما مؤخرا، عن تعرضه لمواقف غريبة بسبب لونه وبشرته، حيث إعتقد البعض أنه مجرد خادم، فيما إعتقد البعض الآخر أنه عامل مقهى. وأضاف في تصريحه: "لا يوجد رجل أسود في أمريكا في مثل عمري، يخرج من مطعم إلا وطلب منه أحد أن يوقف له سيارته في موقف السيارات". وما دام رئيس أمريكا يعاني نفسه من مخلفات الإسترقاق ويصرح بذلك علنا، فما بالكم بأرقائنا نحن وبأي مقياس يمكن تقييم حجم معاناتهم؟. ولما عجز الشعب الأمريكي عن التمييز بين رئيسه المنتخب وخادم أو عامل مقهى، وهو الشعب المتحضر المتعلم، قائد الأمم، فكيف يتسنى أيضا لنظامنا نحن وطبقتنا الراقية، ونبلائنا، التمييز بين الحرطاني والعبد والحمار؟.
ما دام معيار التمييز أساسه العضلات والطاعة من جهة والنبل والإسترقاق من جهة أخرى؟ وما الفرق عمليا بين الثلاثة إذا كانت الجرارة توضع على الحمار منذ الصباح الباكر إلى غاية المساء ليستحق كيلغرام واحد من القمح، وهل كيلوغرام القمح هذا يقدم كوجبة من أجل صحة الحمار أو أناقته أم ليعمل غدا فقط؟. والسؤال موجه للفيسبوكيين.
وعلى عكس حالة الرئيس الأمريكي عجز الحراطين، بجميع مستوياتهم عن التمييز بين: "البيظاني" والنظام، فكلما أرادوا أن ينتقدوا النظام سقطوا في قفص "البيظان"، وكلما أرادوا أن ينتقدوا البيظان إصطدموا بالنظام، حتى أصبحت الإشكالية في أذهانهم، كالدجاجة والبيضة فلسفيا، أيهما الأولى ولدت؟.
ولتعذر الجواب على السؤال، برزت في قاموس نضالهم دولة البيظان ونظام البيظان وعلماء البيظان، مما يؤسس لصراع عرقي قادم لا محالة، تغذيه من الخارج قوى لا تريد الخير للبلد، ومن الداخل وضعية الحراطين أنفسهم، التي أصبحت تشكل تهديدا حقيقيا للوحدة الوطنية، بفعل تعاطي الأنظمة معها، وعدم مبالاة النخب التي ظلت هي الأخرى، تتفرج على الظاهرة، وكأنها حالة عابرة ستختفي بواسطة النصوص القانونية والخطب أو القمع في النهاية إن إستفحلت وأنفجرت.
إن ظاهرة العبودية ومخلفاتها، رغم كافة الإجراءات المتخذة من طرف الأنظمة المتعاقبة منذ الإستقلال، مازالت تشكل عائقا، وجرحا لم يندمل بسبب فقط، أن لا الأنظمة ولا النخب تجرؤوا على نهج المصارحة والمكاشفة من أجل تبني سياسة واضحة المعالم إقتصاديا وإجتماعيا وثقافيا.
وإذا كان البعض يعتقد أن وقت المصارحة والمكاشفة، في ظل وضعيتنا الراهنة لم يحن بعد، لحاجة في نفس يعقوب، فإننا نقول انه من المفارقات أن لا نعترف أن ظاهرة العبودية شئنا أم أبينا، وإن إختفت كممارسة علنية، مصرح بها، قد نحتت في جسم المجتمع ما يضمن لها البقاء في الأذهان، كرصيد ثابت يعيق الإختلاط والندية والمساواة. فإذا كنا نتحد في العقيدة واللغة والثقافة الإجتماعية من جهة، فإننا نختلف في اللون والسمات وحتى في بعض الأسماء من جهة أخرى. مع أن هذا التنوع قد يكون من أهم عوامل الوحدة الوطنية، إن أحسن إستغلاله، لكنه قد يكون أيضا من أخطر عوامل التفكيك إن أسيئ فهمه، حيث لا يمكن التحكم في مفاتيحه إلا بالحكمة والتدبر والتبصر.
ولما كانت العبودية من منظور الأسياد، أن نشتري عبدا ونستغل عضلاته وعضلات أبنائه، كان من اللازم أيضا أن نربيه على طاعة سيده، إما بالضرب أو التجويع أو الترهيب وكل وسيلة أخرى تفيد في عزله عن الآدمية، ليبقى إنسانا منقوصا في تفكيره وأهدافه وطموحاته.
ولم تكن وسائل القمع تلك، ومخلفات الرق من فقر وأمية وتهميش أكثر وطأة ولا تأثيرا من دور ثقافة الإسترقاق، حيث يمكن التغلب على الفقر والجهل والتهميش بواسطة العلم والعمل والإندماج، لكن لا يمكن تجاوز العقد النفسية التي توارثها الأجيال، إلا من خلال النهوض الشامل للأرقاء السابقين والحاليين إلى مستوى يعيد لهم الإعتبار ويشعرون من خلاله أنهم بشر كسائر مخلوقات الله، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.
ولما أراد الأسياد ترسيخ ثقافة الإسترقاق وضعوا علامات مميزة ترمز في جميع جوانبها إلى خصوصية هذه الفئة، وتسببت في رواسب كثيرة نذكر من ضمنها:
-عقلية النظر بالدونية ومفاهيم النبل والإسترقاق، كدلالة واضحة على أن العبودية قد عششت هنا وتركت بصمات لا يمكن تجاهلها، تجذرت في ثقافة المجتمع لتصبح عرفا يندرج في إطار المسكوت عنه، حتى وصل الأمر لتداول مقولة: "ثلاثة في العبد لا تزول النوم والسرقة ثم البول" لقائلها المجهول.
وليس الهدف من المصارحة والمكاشفة، محاكمة التاريخ ولا إنتقاد أجيال على تصرفات أسيادهم، ولا أيضا إنتزاع حقوق للعبيد من أمم قد خلت، لكن الهدف هو وضع حد للظاهرة وإستئصالها من جذورها، وتنظيف مجتمعنا ثقافيا من دنس العبودية والإسترقاق حتى نبعد شبح الحروب الأهلية والصراعات العرقية ونتعايش معا، في وطن شعاره العدالة والمساواة، آمنا مستقرا.
وما دام النظام الحالي يعترف ضمنيا بوجود مخلفات الظاهرة، إلى درجة انه أمر بتوحيد خطبة الجمعة، خصيصا لمكافحة الإسترقاق وآثاره وسبق إن تفاوض مع السلفيين وهي جماعات أعلنت الجهاد وحملت السلاح. فما المانع من تبني سياسة الليونة والحوار والنقاش مع مجموعات الحراطين في إطار أيام تشاورية، يشارك فيها الجميع حول ظاهرة العبودية ومخلفاتها حتى تزدحم العقول ويخرج الصواب. حيث لاشك أن الأصوات تعالت وإختلفت وبقدر تعددها وإختلافها ستزداد الضجة، فمن له أذنان وعقل وجب عليه التصرف، ومن له أذنان بدون عقل وجب عنه الإمساك.
أما من يفترض أنه عاقل ومسؤول، وله أكثر من أذن كالنظام، فلن يقبل منه العذر.
وعليه لم يعد مقبولا ذر الرماد في الأعين، وإلا ما الفائدة من قانون يجرم السرقة والتحايل بجميع أشكاله، لما كانت الممارسة مجرمة أصلا وشكلا في كافة قوانين البشرية، وما الفائدة كذلك من إنشاء محاكم خاصة بالإسترقاق ما دامت الظاهرة، محرمة وممارسيها مجرمون أمام القضاء الواقف والجالس بقوة القانون؟. وماذا ستضيف الخطب الوعظية والتوجيهية، رغم أهميتها على لقمة العيش كما ونوعا، إذا كان الخلاف على أشده وسببه الرئيسي التباين في الثروة والتوظيف وكافة وسائل الرفاهية.
إن إشكالية الِإسترقاق لن تجد سبيلا، إلى الحل بالطرق البدائية التي دأبت الأنظمة على إختيارها، لأنها ترتكز على كر وفر، ولولا ذلك النهج، لماذا نترك الحبل على القارب لحركة "إيرا" دون ترخيص، حتى تتجرأ على النيل من مقدساتنا ومن علمائنا ومحاولة نقل الفتن إلى داخل مساجدنا؟.
هل يوجد من بيننا من كان يتصور أن أيادي بعضنا قد تصل في يوم من الأيام إلى الدين وما يؤذي المسلمين؟، لقد حدث ذلك للأسف لكن المسؤولية تقع بالدرجة الأولى على الأنظمة الفاشلة في تصورها ونهجها وسياساتها العمياء، وعلى النخب أيضا لضعفها وتملقها وتخاذلها وحتى عدم وطنيتها.
وفي المحصلة يجب أن نتوقف عن سياسة الإستنكار قبل أن ندفع بالبعض إلى وسائل نحن في غنى عنها، ومن ضمنها الغلو والتطرف والخروج عن المألوف كظواهر دخيلة، ظهرت في مجتمعات عربية وإسلامية كثيرة.
محمد المختار ولد احمين اعمر
عمدة بلدية أوجفت السابق