كأنه من زمن مضى، جاء إلى هذا العصر مصادفة، فيما كانت وجهته المستقبل..
يوسف أحمد، أحد أعمدة الفن التشكيلي القطري، يعيش طوال الوقت تحديًا إبداعيًا مزدوجًا، ينتمي إلى التراث ومزاجه حداثي، يتعلق بتفاصيل بيئته المحلية وعينه على العالمية، يمارس الرسم ببساطة أصبحت بمرور سنوات التجربة والخبرة في غاية التعقيد، لاسيما بعد أن قرر البدء من نقطة الصفر في التشكيل، أي من صناعة الورق أو الكرتون (الورق المقوى) يدويًا من خامة سعف النخيل، تلك الشجرة الأكثر انتشارًا في منطقة الخليج العربي، والأشد قربًا إلى وجدان الفنان وذاكرته المحمّلة بحكايا الأجداد وصولًا إلى لوحته المعاصرة.
عندما أعلن يوسف أحمد عن معرضه «قصة إبداع»، برعاية الشيخة المياسة بنت حمد آل ثاني رئيس مجلس أمناء متاحف قطر، تقاطر محبو الفنان إلى غاليري متاحف قطر بالحي الثقافي (كتارا) وهم يعلمون مسبقًا أنه سيأتي بجديد.
«الإبداع يأتي كشرارة ولكن يسبقه تراكم»، هذا ما يؤكده أحمد، فالمعرض يروي قصة مسيرته الفنية الممتدة إلى خمسة عقود تقريبًا، عبر 50 عملا فنيا، توزعت على ثلاثة أجزاء، الجزء الأول منها يتضمن مجموعة الأعمال المبكرة للفنان (بدايات السبعينيات) التي عرضت لأول مرة للجمهور، مثل «بيوت حالمة» و»خياط شعبي» و«صانع الشباك»، وكلها منفذة بأسلوب واقعي يميل إلى التعبيرية، وامتدت هذه المرحلة حتى بداية التسعينيات من القرن الماضي، ومن بين لوحات هذا الجزء لوحة «مدينة الزبارة» التي يبلغ حجمها (6 × 2) مترًا، ونفذها الفنان بتكليف من الشيخ حسن بن محمد آل ثاني.. لوحة بانورامية للمدينة القطرية الأثرية، التي شهدت ازدهارًا في القرن الثامن عشر الميلادي، وهجرها أهلها لاحقًا لتستحق الدخول في قائمة اليونسكو، استخدم فيها يوسف أحمد ألوانا مصنعة خاصة لهذه اللوحة، من أشهر ماركات الألوان الزيتية في العالم، ويبدو في هذا الجزء مدى ارتباط الفنان بالحياة الشعبية وتقديمها بأسلوب راق.
والجزء الثاني تضمن لوحات ضخمة مشتقة من تجربته في صناعة الورق المحلي يدويًا، وغلبت عليها الألوان الترابية والمساحات الفضائية المغلّفة بالحروف العربية. أما الجزء الثالث فمثل المرحلة الجديدة، بتوظيف ورق النخيل القطري المصنّع يدويًا في أعمال فنية معاصرة ثلاثية الأبعاد، معتمدًا على عنصرين أساسيين في الزخرفة الأسلوبية، هما: الدائرة والمربع.
نضوج القمر
خمسة عقود إذًا من التجربة الخطية واللونية والوجدانية والمعرفية والعرفانية يبثها يوسف أحمد في لوحات متأججة بالعاطفة، مدججة بالتكنيك، على مستويات الفكرة والصورة والخامة، وكل واحد من هذه العناصر الأساسية في التشكيل يحتاج إلى وقفة خاصة.
ففي لوحات معرضه النوعي السابق «أحرف قمر الحب المكتمل» قبل بضع سنوات اختار الفنان الدائرة الحرة النهايات قالبًا للوحاته، محاكيًا شكل «القمر»، ملهم العشاق والشعراء العرب، هادمًا في الوقت نفسه الشكل التقليدي المربع أو المستطيل للوحة، ليبني عالمًا جديدًا، تبرز على سطحه التضاريس التي تشي بالملمس الخشن والبدائي للوحة، على نحو معاكس للعصر الأملس والصقيل في كل شيء!
ما يشير في الواقع إلى علاقة الفنان الخاصة مع الخامة التي يصنعها بنفسه من سعف النخيل وبعض المواد المختلفة في البيئة المحلية القطرية، كما يفسر لنا فكرة المزج بين معطيات مدرستين تشكيليتين متناقضتين مظهرًا، متآلفتين جوهرًا، هما «التجريدية» و»الحروفية».
هذا على مستوى التكنيك، أما على مستوى المحتوى فقد تناول الفنان موضوعًا محددًا هو الحب، مُودِعًا في اللوحات رسائله العاشقة والشاعرية إلى «القمر»، هذه المفردة الجميلة والموحية في التراث العربي والإسلامي، حتى باتت رمزاً أثيراً يشير إلى الدين الحنيف (الهلال)، لكن الفنان هنا اختار الشكل المكتمل للقمر (البدر)، ربما تعبيراً عن حالة النضج والاكتمال التي وصل إليها ودلّ عليها العنوان، من دون أن يفقد هذا الرمز إحالته الدينية والتراثية، ولعله يذكرنا أيضًا بتلك الأهزوجة الرائعة التي استقبل بها أهل المدينة المنورة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم القادم من مكة المكرمة: «طلع البدر علينا/ من ثنيات الوداع/ وجب الشكر علينا/ ما دعا لله داع»، وإن كانت اللوحات تطرح عاطفة جيّاشة تذكرنا أيضًا بالشعر العرفاني الذي تسربت منه عبارات ونداءات وأشواق طافحة، مثل «لقلبي» و»يا قمري» و»أنت عمري» التي ملأت فضاء المعرض وقاعاته بمشاعر الحب.
ظلال السعف
تعد خاصيّة التجاوز إحدى السمات البارزة في تجربة يوسف أحمد التشكيلية، تجاوز الذات وتجاوز الآخر، في البحث عن جماليات جديدة، هذا لا يعني أن الفنان يحرق المراحل بمقدار ما يعني أنه يهضمها جيدًا ويستفيد من مكوناتها في المرحلة الجديدة..
قام بذلك في معرضه «صنع في قطر» الذي أقيم بالتزامن مع احتفالية الدوحة عاصمة للثقافة العربية 2010، ثم في معرضه الآخر «أحرف قمر الحب المكتمل» 2011، ثم معرضه «ظلال السعف» 2012.
يقول يوسف أحمد: ترتبط تجربتي بالذاكرة الطفولية والانطباعات الفطرية التي تتركها الطبيعة والحياة والكون داخل الإنسان مهما امتد به العمر، إنها ذلك الخزّان الهائل من الصور والمشاعر والأحاسيس التي لا تنضب، فعندما تذكر «ظلال النخيل» تستدعي معنى الراحة والاطمئنان تحت ظل الشجرة المباركة بعد التعب، إنها تشبه حكاية قديمة تدفعنا إلى فسحة التأمل بعد نقطة الخاتمة، أما بالنسبة إلى النخيل فإنها الخامة الطبيعية الأساسية التي نفذتُ بها جميع أعمال المعرض، وأنا مؤمن بأن هذه الخامة كنزٌ لا ينضب، وأنها تنطوي على إمكانيات هائلة تخدم أي فكرة أريد التعبير عنها، والتجريب من خلالها، فهي مادة طيّعة جدًا، وقريبة من روحي ونفسي، ويمكن تقديمها عالميًا بكل جدارة.
رسائل المعدن
في معرضه المشترك «حوار» العام الماضي (2013) مع صديقه الفنان الكويتي عبدالرسول سلمان، رئيس اتحاد التشكيليين العرب، اتجه يوسف أحمد إلى «تعميق» سطح العمل، عبر بناء عالم ثلاثي الأبعاد، مصمم بطريقة هندسية معقدة ومكثفة تحاكي العمارة الحديثة، ولكن باستخدام خامات سعف النخيل ذاتها..
ورقة النخيل الواحدة يُودِعها يوسف أحمد كـ»لفافة» أو «رسالة» من الأزمنة الخالية إلى العصر الحالي، واللفافات مطويّة ضمن شبكة محكمة من الأسلاك الحديدية، ما يشي بسطوة العصر المعدني، الذي ابتلع كل تلك الذاكرة الإنسانية بأحاسيسها وأحلامها البسيطة، ضمن عالمها الشبيه بالعالم الافتراضي، الذي بات أكثر تعقيدًا من ذي قبل، بملفاته المخزنة ضمن أنساق عديدة متجاورة ومتقاطعة، وكأنها «خريطة وراثية» في صيغة بصرية حداثية، أو لعلها ما بعد حداثية، استطاع يوسف أحمد الوصول إليها مستثمرًا كل نجاحاته وإنجازاته التشكيلية السابقة، في المدرسة الواقعية، ثم البعد الواحد، والحروفية، والتجريدية، وأخيرًا المفاهيمية، مقدمًا كل ذلك تحت سقف صالة واحدة!
يذكر أن يوسف أحمد من مواليد الدوحة 1955، يحمل بكالوريوس في الآداب والتربية من جامعة حلوان بالقاهرة 1975، وهو مستشار الفنون المعاصرة بمتحف الفن العربي الحديث بقطر، حاز عددا كبيرا من الجوائز والشهادات منها: جائزة بينالي الفن الآسيوي بدكا عام 2010 وجائزة الحكام من بينالي الفن العربي المعاصر بالكويت 2006، والجائزة الثالثة في الجمعية العامة للفنون لإعمار دبي 2004، وجائزة أبها للفنون بالمملكة العربية السعودية2000، والجائزة الكبرى من بينالي الفن الآسيوي بدكا 1999، وجائزة الحكام لبينالي القاهرة الدولي، والجائزة الأولى بمسابقة بنك قطر الوطني 1998، والنخلة الذهبية في أول معرض للفنانين بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية 1989، وجائزة الحكام في بينالي أنقرة الدولي والجائزة الأولى لمهرجان بغداد 1986.
عبدالله الحامدي