الإنصات للقصة القصيرة

رسالة الخطأ

Deprecated function: preg_match(): Passing null to parameter #2 ($subject) of type string is deprecated in rename_admin_paths_url_outbound_alter() (line 82 of /home/amicinf1/public_html/sites/all/modules/rename_admin_paths/rename_admin_paths.module).
ثلاثاء, 2014-12-23 23:16

في واحدة من الكتابات النادرة يختصر (وليم سارويان) وهو يتهجد بإبتهاله، آلام كاتب القصة وهي تتصاعد من أجل كل شيء: السهول، والدهاليز الضائعة، والنُصب التذكارية، والوجوه التي رأيناها، والخط البسيط، ولغتنا، والإنحناء المتناسق للورقة، والحلم، والابتسامة، ولمسة الأطراف، وحب العالم، وعدم الخوف من الموت، ومن أجل الضياء، ضياء شمسنا، شمس الرجال المجهولين، والصباحات التي ضاعت، يُنصت سارويان، في عمق نصه القصصي، للعالم وهو يتنفس، فبإمكان القصة القصيرة، أيضاً، أن تقتنص هذه اللحظة الخلاقة، لحظة الإنصات للعالم، لتحقق بحد ذاتها موقعها المركزي في التجربة الإنسانية، بتعبير سوزان لوهافر.
وإذا كان الشاعر يتغنى في أوقاته الرسمية بأمجاد القبيلة، فإن القصة لا تحكي، في جلّ أوقاتها، إلا عن طبيعة الإنسان: في سموه واندحاره، في رفعته وانحطاطه وما يكون بينهما من مسرّات بليغة وأحزان، يواصل سارويان ابتهاله من أجل الأشياء التي لايمكن حصرها، لنواح سواد الناس المجهولين، للرجال الذين ساروا تحت الشمس في أصقاع شتى، في آسيا، وأفريقيا، وللذين ساروا عبر البحر، للحرية في لتوانيا، وبولندا الباردة، ولمقاطعات تكساس، وللبطيخ والفقر، من أجل ذلك كله نرفع لك الشكر يا إلهي، فمن أجل الإله تكتب كذلك القصص.
يذكر سارويان شاباً لايعرف إسمه أحد، من مدينة (كلي كاونتي) بولاية (ايوا)، يجلس وحيداً ويكتب قصصاً وتلك فكرة الشيء المرادفة للرعب والوحدة، فباسمه يناشد سارويان طالباً أن يُمنح قصة واحدة، حيث تتفتح فكرة الوحدة، مثل زهرة ليلية، لتضم الناس جميعاً في إلتفاف أوراقها، فنحن في النهاية أبناء ذات واحدة عليا عميقة أوسفلى، كما يقول (يوسف إدريس) قبل أن يغيب في مرايا قصصه ويظل صوته يُعيد في تردده حديثاً عن قدرة القصة على تأمين أسمى إتصال ممكن مع الإنسان، الإتصال قائم وموجود والمهم هو الوصول إليه، ولنا أن نفكّر بكاتب قصة آخر يعيش وحيداً في (ايوا) ذاتها بعد أن حقق قفزة الألم العالية بانتسابه للعالم الجديد، لكن أصوات مواطنيه، أبناء جلدته الأولى تواصل رنينها في روحه، الرنين الذي يعلو على رنين أجراس الكنائس من حوله وعزيف الرياح، كيف يمكن لهذا القاص أن يختصر وحدته، يوجزها في لحظة حلم عابر ليتمكن من الكتابة عن أصقاع أخرى، أصقاع تنأى به، بغير أن يخلع حزن الناس المقهورين الذي يبلل روحه ليكتب عن ظلال لا تنتهي لأناس رآهم خطفاً عبر نافذة المترو، أو التقط حسرة أرواحهم في أماكن عامة، نظيفة ومكيفة..
قد يضطر الكاتب في أحيان أن يستعمل دلوه الداخلي الخاص للوصول إلى مياه ألآخرين العميقة، منذ قرأت هذه الجملة في قصة (يموت الزمار) قبل أكثر من عشرين عاماً وهي ترنّ في ذهني، فقد مثّلت نقطة ضوء موجزة عن إضطرار الكاتب للإلتفات إلى الذات، ومن خلالها الإلتفات (إلى ألم ألآخرين)، أو التحديق من فوهة البئر الخاصة إلى بئر الإنسان، حيث نفسه أقرب الآبار إليه، مثلما شكّلت أمامي هاجساً للنزول عبر القصة، بأقل قدر ممكن من الكلمات، إلى وحشة الأعماق الإنسانية، إلى عزلة كهوفها الباردة، حيث ما يزال الإنسان يدوّن مخاوفه بالفحم على الجدران، لذا تبدو من الصعب محاولة إدراك تاريخ القصة، والعمل على تحديد نقطة ما لانطلاقها، على العكس من تاريخ أشكالها الفنية، فلا يمكن من وجهة نظر النقد القصصي تناول تاريخ القصة الطويل عبر مراحلها المتباينة انطلاقا من نقطة زمنية محددة…
ولا حتى التعرّف على بدايات مثل هذا التاريخ، كما يؤكد (باتيس) في القصة القصيرة الحديثة، لكنها تظل، على الرغم من ذلك، الوريث الشرعي والأمين لمختلف هواجس الإنسان وهو يحاول أن يعيد على مسامع الإنسان شظايا من تجاربه، وكسراً من رحلته بين بابي الدنيا: الولادة والممات، فمن حق القصة رؤية ما لايُرى في لحظة كشف وتنوير بقدرتها على النزول، في لحظة زمنية خاطفة، إلى الأعماق المنسية.
وإذا كانت القصص تقطن في مخيلات القرّاء فإن رصيد هذا الفن من المشاركة الإنسانية سيبدو بلا نهاية، يتجدّد مع تجدّد القرّاء وينفتح ويثرى مع إتساع مخيلاتهم التي تُنشيء هي الأخرى قصصها من دون أن تعبأ على نحو جاد بمهمات الشكل، حيث ستعود القصة بإرادة إنسانية مفعمة لتحكي جوهر التجربة، وتمثل لبّها ونواتها، وهو ما يمدّها بطاقة مضافة يمكن من خلالها أن ترى الدوافع والأسباب، مثلما ترى الحوادث قبل أن تتشكل أو تكون، فللقصة رصيدها من النبوءة والحلم، ولها إمكانيتها على قراءة الواقعة الإنسانية، في شمولها وإتساعها ودوام جريانها، بالتركيز على شظاياها، وإضاءة وحداتها الهندسية الصغيرة، والتقاط قوانينها، في سبيل إنتاج عوالم أكثر قوة وأشدّ حقيقة من العالم الواقعي، حيث يأوي تشيخوف بعد كل قصة إلى عربة تجرّها الخيول، مثلما سيعيش أدغار ألن بو في قنينة مرمية في بحر، ويواصل همنغوي التحديق من عين بندقيته إلى ما يتخاطف أمامه من ظلال، ويتهجد وليم سارويان على خلفية ذلك كله بإبتهاله العادي من أجل قصة قصيرة واحدة.

*قاص عراقي

لؤي حمزة عباس*