وقف السياب نسيجا وحده في معترك الفن والحياة، حتى بالنسبة لرموز الحداثة لم يشترك معهم بالخصال نفسها، فقد افترق عن البياتي بنقطة جوهرية، أنه كان شاعر أفكار بينما اقترب البياتي من الأحزاب والأنظمة، وشغل عدة مناصب.
وكذلك شأنه مع نازك الملائكة.. استمر السياب بموالاته لتحديث الإيقاعات والتراكيب وتبنى فكرة الشعر الإنقلابي والقصيدة التموزية التي تذكرنا بملحمية ت. س. إليوت مؤلف «الأرض اليباب». فقد آمن منذ نعومة أظفاره بمبدأ الأرض المحروقة. وحاول أن يلغي ثم يمهد، بمعنى أنه نظر بعين الشك لماضي فن الشعر ديوان العرب قبل أن يعيد النظر بجدواه وأدواته. بينما كانت زميلته مترددة وتشك بجدوى مبدأ الحداثة ذاته. وربما لهذا السبب اقترنت لديها قصيدتها الأولى بعنوان وبائي هو «الكوليرا»، كأن سادية المرض المعدي الفتاك يكشف عن رهاب التحديث الذي تبشر به.
لقد أخفت نازك الملائكة خلف استراتيجية التجديد عاطفة تدين بالولاء لمعنى الحدود.. وهو ما عاد للظهور بأجلى صوره، حينما أعلنت عن ندمها ودعت لمحاسبة بداياتنا الشعرية في الحداثة..
لم يكن السياب راديكاليا في حداثته، لو قارنته ببواكير خير الدين الأسدي في «أغاني القبة» – 1951 حيث الحروف تتفتح كالأزهار، وبطريقة متسلسلة تحمل معنى المنمنمات التي لا غنى عنها في الفن الإسلامي، لأنها تدل على اللاتناهي والتكرار في حكمة الخالق، أو بالمقارنة مع أورخان ميسر في «سريال» 1948، الذي لم يعول على المفردات ولكن الصور الشفافة والرمادية ذات الإيحاء الغامض، كما لو أنها مشاهدات في الحلم. لقد تخلى كلاهما عن القطاعات الواعية من الشعور، وقدما رؤية نفاذة لأفراد الجيل الضائع، الذين أدركوا المعنى الذاتي للقانون في وقت متأخر. أو كما قال أدونيس في معرض كلامه عن ميسر ما معناه: «إنهما شاعران ثوريان. قدما صورة جديدة ليس للإنسان ولكن للشعر واشتركا في الانقلاب، من فهم جديد للإنسان إلى فهم مضاد للكتابة. ولكن هذا لا يمنع أن السياب شاعر دراماتيكي وميلودرامي. وإذا توقف عند إعادة توزيع الموسيقا والنغمات بطريقة الرحابنة في توزيع ألحان سيد درويش وتطعيم حساسيته الشعبية بقليل من ذوق النخبة، فقد وضع الشعرية عند عقدة من الصور والتراكيب. وحرك الكوامن، واختار للمعاني مفردات من الطبيعة، بتعبير آخر حاول أن يختار للمعنى صوتا يدل عليه.
والمثال المعروف هو قصيدته «أنشودة المطر»، فهي قصيدة تخصيب وخراب.. لقد جمعت الأضداد مصدر النماء والحياة مع سبب الموت والهدم. ورافق ذلك ايقاعات تنهمر بشكل شلال من الأصوات التي تنبه المستمع.
وأعتقد أن هذه الظاهرة نادرة في الشعر والنثر على حد سواء، فالشعر الصوتي وشعر الصدى (الذي استفاد من تكنيك الإيكو) سرعان ما مات في مهده وحلت محلة القصيدة المرئية. ولا أستطيع أن أفكر بكاتب اهتم بمعاني الأصوات غير الروائي المعروف د. هـ. لورنس مؤلف «عشيق الليدي تشاترلي» ومجموعة «قصائد جديدة».
ويمكن أن تجد في كتاباته وفرة من المفردات ذات الإيقاع الخلاب، الذي يدل على المعنى، مثل نقرات مفاتيح الآلة الكاتبة أو صوت هبوب الرياح بين أوراق الشجر، غير أنه كان تلازما طبيعيا، يدل على منطق الثورة الصناعية، حيث هدير ونقرات الآلة تنقل معنى الاغتراب وتبعية الإنسان لأدوات الإنتاج، أو أنه يدل على ثورة النفس وعودة الروح للطبيعة. ويمكن أن تفهم ذلك في ضوء تفكيره اليميني والمثنوي الذي أرى أنه تومائية جديدة، تفكك الواقع لنثر مذكر وشعرية مؤنثة. ولكن لم تكن لدى السياب مثل هذه الإرادة في بناء المتوازيات في لاشعوره. بالعكس كان يفتقد للثقة بالنفس، ويشعر بالتبرم والضجر من حالته السريرية ومن وضعه الوجودي كإنسان معتل ومريض وكرجل دميم الخلقة ولا تهواه النساء.
وقد قاده ذلك لتأمل عملية البروز التدريجية لمفاهيم وهمية في حياة وضمير الإنسان الذي يشعر بأن شخصيته و»ذاته» غريبتان عن العالم الموضوعي، الذي يبدو لناظريه كشبكة من الألغاز وكقوة خفية معادية (بتعبير بوريس سوتشكوف). وأوضح مثال على ذلك صورة البغي التي ترمز لسعادة مزيفة وانفصال نفسي عن عالم الحقيقة، وربما هذا فارق شديد الأهمية بالمقارنة مع لورنس، فقد كان هو الآخر عليلا مصابا بمرض ذات الرئة. ولكن عشق النساء له، ومغامراته الجنسية، وعلاقته مع زوجة أستاذه ويكلي، ثم فراره معها إلى ألمانيا، حيث عاشا حياة ضنك وعوز، كانت مصدر إلهام لا ينضب، أوحى له بأعماله الخالدة مثل «قوس قزح» و»الثعلب» و»العذراء والغجري».
كانت طاقاته كلها موجهة لتفسير العشقية.. أو المعنى الاجتماعي لليبيدو، لو اعتبرنا العلاقة بين المذكر والمؤنث نوعا من الترجمة الاجتماعية للغرائز.
وعلى الأرجح هذا الوضع البشري (تدمير الأنا مقابل الاعتداء على الأنا الأعلى) هو المسؤول عن درامية وحكائية شعر السياب أمام الطبيعة التأملية لشعر لورنس.
والخلاصة أن السياب منسجم مع شعريته، وحاول أن يلعب في حدود نقطة التوازن، فهو لم يرغب في أن يأخذ دور شيطان أدوات، بمعنى أنه لم يقترف مجزرة ضد الشعر العربي واحترم ضرورة الإيقاع كشرط لا بد منه لإطراب المستمع ولإثارة لواعجه.
***
ولكن هذا التهذيب الفني في الأدوات لم يترافق مع تهذيب في الأفكار،
فماكينة أفكار السياب بلا ضوابط، وأخشى أن أقول إنها اقتربت من الشتائم والسباب أحيانا، ويمكن توضيح ذلك لو نظرت في مدونته المعروفة «كنت شيوعيا». بالتقليب في صفحاتها، وهي سلسلة من المقالات في النقد الذاتي، تلاحظ الحقد الغريب الذي انصب على بواكير حياته السياسية. لقد تفرغ في كل فصول الكتاب لهجاء الحزب الشيوعي، ولم يتوقف عند اتهامه بالعنصرية والخيانة العظمى (فهو حزب مأجور ويتلقى التعليمات من إيران والاتحاد السوفييتي كما ورد على لسانه في أكثر من موضع)، بل وصل به الحنق لاتهام كوادر الحزب بالفجور. وشخّص الأزمة في التنظيم بأنها نتيجة للعقد النفسية والدافع الجنسي، ولم يبق إلا أن يقول: إن الفكرة الأممية هي غطاء للرغبات الجنسية وللمكبوت. وتذكرني هذه الحالة بمشكلة روجيه غارودي في الثمانينات الذي انقلب أيضا على حزبه لأسباب نفسية. وعلى الأرجح بسبب خيبات الأمل وإهانة الكاريزما، ووصول المؤسسة لنقطة افتراق مع الفرد ودوره في صناعة التاريخ.
لا شك أن اليسار العربي عانى طويلا من الحيف. ولكن مثل هذه الاتهامات، التي تأتي من فوق الإيديولوجيا ونظام الأفكار، ذات منشأ أصولي، وتقف خلفها رغبة مازوشية غريبة ترى أن الخلاص يبدأ من عدم إشباع اللذة، وكأنه يدعو للحرمان ويدافع عنه. وأعتقد أن هذه هي مشكلة السياب… فهو لم يكن نجما محبوبا عند النساء، وكلما نظر في صفحة المرآة يشاهد الخلل التشريحي الذي لا وسيلة لتصحيحه، ناهيك عن تعليمات حزبه المفروضة على الذات الفنية، التي وسعت من إحساسه بعدم الأمان والثقة.
وهكذا أرى أن ثورته ضد ماضيه السياسي لا تدين بشيء للإيديولوجيا، وكانت مجرد وسيلة للدفاع، مثلها مثل العصاب، نلجأ إليه كي لا نتورط في نوازع تدمير الذات وخيانة النفس ثم التفريط بتماسكها. والدليل على ذلك ما تنطوي عليه كل قصائده من إيمان بالجموع والثورات الشعبية. ومن تفاؤل بالمستقبل، هذا غير النهايات الإيجابية التي تتكسر فيها القيود أو يبزغ فيها الفجر.
من منا يستطيع أن ينسى قصيدته عن هيروشيما وناغازاكي التي يدين فيها الإمبريالية ويسميها تقريبا بالحرف الواحد (إمبراطورية الشر)، وكأنه لا يزال عضوا نشيطا في الحركة الأممية.
*كاتب سوري
صالح الرزوق*