يبدأ الموسم الأدبي في البلدان العربية وكأنّه حدث مُمِلّ. معارض الكتب تنظم تباعا من بلد إلى آخر، إصدارات جديدة كثيرة، تتحدث عنها الصحافة الثقافية وكأنّها حدث عادي.
تتكرر أسماء كُتّاب يشاركون في عدة معارض بالجملة، ينتقلون من بلد إلى بلد على حساب الجهات المنظمة، وكتابٌ آخرون مهمشون تماما، رغم ثقل أسمائهم. الناشرون الذين يركضون بنتاجات مؤلفيهم، يعرضون بضائعهم وكأنهم في «بسطة خضر».. تقاليد النشر والترويج للكتاب منعدمة تماما.
لا سجالات تفتح في برامج تلفزيونية من أجل الكتاب؟ لا نقاشات، لا ترويج احترافي للكتاب، وتلك القراءات التي تنشر في الجرائد الورقية ومواقع الإنترنت تغلب عليها لغة «النقد الأكاديمي» مع أنها قراءات انطباعية في الوقت نفسه.
السؤال: من يقرأ الجرائد الورقية اليوم في عالمنا العربي؟ وهل مقالة من النوع الذي ألفناه يرقى لمستوى «حملة ترويجية» حقيقية للكتاب؟ الجواب:لا طبعا!
في بريطانيا مثلا لفت انتباهي كيف نظمت الحملة الترويجية لفيلم «دب بادينغتون»، بطل قصة للأطفال، تحوّل مع الزمن إلى أسطورة، استثمرت ولا تزال تستثمر إلى أقصى حد على كل الأصعدة، فالأطفال لا يزالون يقبلون على اقتناء الكتاب منذ سنة 1958.
واليوم مع إطلاق الفيلم افتتح معرض للكبار والصغار، بدخول مجاني ووزع في شوارع لندن خمسون تمثالا لدب بادينغتون، والجميل أن أسماء فنية وسياسية لامعة شاركت في دعم الفكرة، وأولهم النجمة نيكول كيدمان بطلة الفيلم، وستباع التماثيل في مزاد علني ويعود ريعها لأعمال خيرية بعد انتهاء فترة عرضها.
ثقافيا الفكرة أكثر من رائعة، وستجعل الأطفال مجددا يقبلون على مشاهدة الفيلم واقتناء الكتاب الذي بلغ ستين عاما من عمره منذ لحظة صدوره، سياحيا سيحب الناس اكتشاف مسار دب بادينغتون بين محطات القطارات، إنه شيء ممتع ومسلٍّ أن يصبح كائن أدبي، حقيقيا وموجودا بين جمهوره بكل هيئاته المحبوبة.
وهذا ما تمنيته دائما أن يحدث في بلداننا العربية، لكنه لا يحدث، وإن كنت أرى أملا كبيرا في أن تحقق دبي كل هذه الأحلام مستقبلا لأنها الأقرب إلى التجدد والسير على خطى العالم المتطور.
لقد بدأتُ حياتي حالمة بالأسماء الكبيرة التي أثرت فيّ وشاركت في تكوين شخصيتي، فهناك لمسة سحرية لكل الذين أحببتهم تركوها، من دون أن أشعر في وجداني وذاكرتي. لهذا أنا سعيدة جدا اليوم لأني التقيت أغلب من كتبوا نصوصا ساحرة أبهجتني وصقلت موهبتي ونوّرت لي دربي.
كانوا جميعا مثل شعلة نور رسمت هدفي وثابرتُ للوصول إليها. كنت واثقة أنها الشعلة التي ستوصلني إلى الخلاص الحقيقي من كل أجواء الرداءة التي عانينا منها جميعا في عالمنا العربي. كنت واثقة أنها مكسبي الدنيوي الجميل، ومكسب كل من شابهني في أحلامه وما أكثرهم. هكذا بدأ مشروعي الثقافي، شعلة صغيرة بعيدة المنال، ولكني حققتها عبر تلفزيون دبي.
أرى هذا التاريخ الجميل اليوم فأكتشف أنني أملك صداقات على امتداد العالم العربي، فما أجمل أن أشرب فنجان قهوة مع أدونيس عندما يكون ضيفا عابرا لدبي، وأن ألتقي بجورج قرداحي زميلي وصديقي النبيل وندردش في أمور الأدب والحياة… جميل أيضا أن تكون صديقتي القريبة سيدة المسرح العربي سميحة أيوب وأتقاسم معها أسرارا ومكنونات قلبي.
جميل أن تصبح ريم حنّا بعد إعجاب كبير بأعمالها صديقة أتقاسم معها الوهج الفكري الحر نفسه مع كثير من المودة والاحترام، رغم أن أحداث سوريةالأخيرة أبعدتني عنها، وأشعر بأنني مقصّرة تجاهها.
هلا محمد أيضا جمعني بها الشعر ومودة خاصة. ورغم المسافات بيننا بعد هجرتها إلى باريس تظل مكانتها كبيرة عندي، فقد كنت أول ما أصل إلى دمشق أنزل عليها ضيفة هي وزوجها المخرج الكبير هيثم حقي، ويحضران عشاء على شرفي ويدعوان مجموعة كبيرة من نجوم ومثقفي الشام.. وكذلك تفعل أمل عرفة وزوجها عبد المنعم عمايري، بلطف وكرم كبيرين.
أحمد معلا الفنان السوري العالمي الذي أذهلني بأعماله وشخصيته، مع المخرج حاتم علي، حين صور مسلسل «الزير سالم»، جعلاني أرى سحر الدراما كيف ينشأ ويتكوّن، حين رأيت فضاء العمل الدرامي بكل فخامته.
هذا الموزاييك الجميل منحه لي الفن والأدب، فالله منحنا حياة واحدة، ولكنه أيضا منحنا نعمة القراءة لنعيش حيوات أخرى.
عشت مع كل هؤلاء حيوات كثيرة تفوق القرن من الزمن لو جمعتها معا، ولهذا لدي شغف دائم لأُشَجّع وأُبرِز من يكتبون ويبدعون في صمت، يعملون بكل طاقتهم ليقدموا أعمالا تحرك قلوب الجماهير. وأحب أن أسرد ذات يوم قصص اختلافنا في أمور كثيرة، لكن الشعر والأدب والإبداع رابطة أقوى من أن تُدمَّر، لأنها نابعة من مساحة إنسانية واسعة وخصبة.
قدمت هؤلاء كضيوف، لأني أحببتهم عن بعد، وبقدر ما قدمت لهم من إضاءة وقرّبتهم من الجمهور، بقدر ما أضافوا لي ولهذا الجمهور.
تخيلوا معي الناقد الجميل عبد الله الغذامي السعودي، كم كان بعيدا عن جمهور واسع لأنه مصنف في دائرة النقد الأدبي الأكاديمي، وكيف اكتشف الناس قيمته الإنسانية وثروته المعرفية.
أمل مختار التونسية، الروائية التي أبهرتني بكرمها وطبق «الكسكسي التونسي الحار» الذي حضرته لي واستقبلتني في بيتها.
كل شيء خُزّن في ذاكرتي ونضج أكثر، أصبح مواد جديدة لبرنامج ثري، بإمكانه أن يمنح الرواية والشعر والمسرح الراقي حياة جديدة.
هذا جزء من مشروعي الأدبي الرّاقي ومشروع قلة من زملائي الذين لم يستطيعوا أن يواصلوا الطريق لأن لا دعم لهم. ولأنهم كذلك، يبقى جمهور واسع من المشاهدين يُكَوِّنون متن هذا المجتمع ونواته لكنهم يعيشون في شبه عتمة… لو أننا فتحنا باب الإعلام المرئي أمام مبدعينا، وقدمناهم كما يراهم عشاق الكلمة، لما جاع كاتب عربي في بلده، لما تاه شبان بالآلاف عندنا وتوجهوا لحمل السلاح والاقتتال من أجل قضايا خاسرة والموت هباء… هباء فقط.
نعم كل هذه المقدمة الطويلة بدأتها لأصل بكم إلى أن الإعلام العربي أهمل الكتاب، مع أن كل فيلم أو مسلسل يبدآن بقصة، وكل أغنية و» كليب» يبدآن بقصيدة أو نص، كل تصور لمشروع يبدأ بنص، كيفما كان هذا النص…
نريد مغامرين في عالم الكتب ليحدثوا ثورة التغيير في مجتمعنا، نريد ناشرا يبذل كل ما في وسعه لينجح كتابه، فالكاتب وحده تعب من ملاحقة من حوله بنظرياته ومحاضراته..
تعب من فقره..
تعب من جمود ناشره..
من سلبية قارئه…
من جحود زميله الإعلامي..
تعب والله العظيم.. ولكم أن تسألوا المقاهي التي تأوي أحزانا بالجملة لكتاب يكتبون بدمائهم وأرواحهم، ويموتون يوميا بسبب لامبالاة كل هؤلاء.
كاتبة بحرينية
بروين حبيب