مهما امتلك الباحث من براهين الحجج في ضبط بدايات الأشياء في مساراتها التكوينية الأولى فإنه حتما سيفشل في تحديد حقيقتها.
في هذا الخضم لا يمكن أن نلغي تلك الإشارات التي قام بها الإنسان الأمازيغي البدائي للمساهمة في اكتشاف ذاته وصنع حضارته، على الرغم من أننا لا يمكن اعتبار تلك الظواهر بسلوك إبداعي بمفهومها الجاري؛ إلاّ أنه يمكن أن نستخلص منها أنها جاءت نتيجة مهاراته المختلفة، التي شكلت الوعاء الفكري الأول لأشكال المعرفة المعروفة عند الإنسان القديم. في هذا المعنى «يؤكد جورج فراديير أحد الباحثين المهتمين حين قال: «لا يوجد أي عمل فني يستطيع أن يعفي نفسه من أن يكون شاهدا للمجتمع الذي ينتجه وشاهدا عليه في الوقت ذاته، فالرسام أو الكاتب لا يختلق الأشياء، إنما يستعمل تلك التي يراها بعينه أو التي تنسب إلى الماضي والتي يستمدها من أسلافه» (البيضاوية بالكامل: 11).
لقد كان لدى الشعب، من رعاة ومحاربين ومزارعين.. رغبة عفوية وفطرية في التعبير الخيالي؛ الذي اتخذ أشكالا أدبية وفنية تفاعلت مع محيطه البيئي وحاجته الملحة في البحث والاستفسار عن الظواهر الطبيعية ومحاولة فهمها ومعرفة القوانين التي تضبطها، وسعى إلى تسجيلها والحفاظ عليها عبر استثمارها في تعبيرات رمزية.
ربما تكون «أول مبادرة لتسجيل الأفكار بشمال أفريقيا عرفت منذ العصر الحجري القديم الأعلى، حيث ازدادت قدرات الإنسان النوميدي الفكرية في التعبير عن أفكاره في بعض مظاهر النحت»( فرحاتي: 316) والرسم والنقش والموسيقى وغيرها، بحيث استطاعت الأبحاث الأركيولوجية أن تكشف لنا عن أصناف من رموز ورسومات كهفية ونقوش على الخزف والنقود والحلي.. وفي ألواح وشواهد ومنحوتات وتحف من الفسيفساء.. وصولا إلى فترات اكتشاف الكتابة وانتشارها.. وربما «تكون الرسوم الصخرية هذه هي التي أوصلت قدماء المغرب إلى اختراع الكتابة أي دخول الفترة التاريخية» (عقون: 167). وذلك عبر تعبيرات وأشكال وأحجام مختلفة آخذة في التطور حسب المراحل الزمنية لهذه الحضارات. إننا أمام معلومات أثرية وحفريات ووثائق أدبية مشتتة ولكنها حتما ستساعدنا على تكوين صورة تخيلية، نتصور من خلالها أن المبدع الأمازيغي البدائي كان يخوض تجربة تعبيرية عن أفكاره وطقوسه.. في ما يمكن أن نعتبرها التلميحات والأشكال الأولى لنشأة الأدب الأمازيغي القديم.
في الاتجاه نفسه يؤكد المستمزغ الفرنسي جوليان أن الأفارقة الذين عاشوا في عصور ما قبل التاريخ خلّفوا لنا.. صخورا منقوشة يسميها الأهالي «الحجرات المكتوبة»، وكانت هذه الحجارة موجودة بكثرة في عدة جهات من أفريقيا الشمالية مادة للأبحاث (تاريخ أفريقيا الشمالية: 47). ومن بين المشاهد التي يمكن اعتبارها أيضا تأسيسا فعليا لتدوين الأدب الأمازيغي في فترات من الزمن ما قبل التاريخ، ما فسره (ذ. كي) في فن الرسم الذي يقوم بتمثيل البقريات بقرون أمامية، وتمثيل الرأس في منظر جانبي.. وأيضا رسوم الرعاة في حركات أو مواقف مختلفة ( تاريخ أفريقيا العام: 676). وفي المغرب الأقصى نجد «نقشا بالحروف الأمازيغية متوغلا في القدم. يوجد بالمكان المسمى (عزيب نـ يكيس) في الأطلس الكبير؛ الفرس الأمازيغي الرافع لقرص الشمس المشعة، وعلى يمينه نقش بحروف تفيناغ نقشت في عهد ما على صفحات صخور كبيرة»( م. شفيق).
إضافة إلى اكتشافات فنية وأدبية أخرى متمثلة في أشكال من الأنشطة الفكرية المختلفة، والتي يمكن تعريفها (بالأدب الحضاري) الذي مهد لظهور الحضارات الإنسانية، أو رافقها منذ نشأتها، وساعد على اكتمالها وازدهارها» ( الحسناوي: 37). والجدير بالإشارة هنا، أنه تم العثور على أكثر من خمسين ألف نقيشة في كل شمال أفريقيا، كان حظ موريتانيا الطنجية (المغرب القديم) منها ضئيلا جدا، لا يتجاوز (850) نقيشة لاتينية، نال منها موقع وليلي حصة الأسد ( أعشي: 08). وتشير الباحثة الجزائرية (عيساوي) إلى أنه «تم إحصاء 600 نقش ـ لاتيني ـ يحتوي على نصوص كاملة واضحة المعاني ثرية الأفكار جيدة التحرير.. منها مثلا النقوش البلدية بتاموقادي ونقوش كويكول ومادور وغيرها كثير».
ومن أشهر الأعمال الأدبية الكلاسيكية التي تمت حوالي سنة 139 ق.م؛ نجد نص مدونة شرشال الأثرية؛ التي اكتشفت في شمال أفريقيا، ويسمى بنص دوقة المزدوج ـ بونيقي ـ ليبي، ويعتبر أول وثيقة ليبية مؤرخة بدقة، وهو عبارة عن كلمة إهدائية من معبد أقيم لماسنسان … « (حارش: 134). يقول عنها المستمزغ الفرنسي (كامبس): «إنها نص إهدائي إلى ميكيبسا بعد وفاته، كتب من طرف شخص باسم إزم Y’ZM حفيد ب ك ت.. إبن م س ن س ن (ماسينيسا).. وتكمن أهمية هذا النص في وصف أشياء العبادة الجنائزية الملكية وما نرى أنه التسمية الملكية لنوميديا، ونقرأ السطور الأولى من النص هكذا: مقدس جنائزي للحيّ من بين الأحياء ميكيبسا ملك الماسيل، المأسوف عليه الذي قاد الوطن، سيّد الأمراء، البارّ».
وهنالك معالم أثرية أخرى تشير إلى بداية اشتغال السكان الأمازيغ القدامى بتدوين أدبهم؛ نجد في ناحية قسنطينة بالجزائر «آنية مزخرفة بالصور التي عثر عليها في تيدّيس ـ تعود احتمالا ـ إلى 250 أو110 ق.م. وتحمل إحداها حروفا ليبية رسمت على الجانب برشاقة، وزخرف الباقي بأشكال هندسية مثلّثية مطابقة للرسوم التي لانزال نشاهدها إلى يومنا هذا في الفخار المسمّى بالقبائلي»( عقون: 255). ومن مظاهر الإبداع الأمازيغي كذلك نجد قطعة من «فسيفساء شرشال بنوميديا.. تؤرخ بالفترة الأولى من القرن الثالث الميلادي.. وتعد من أمتع الصور عن الأنشطة الزراعية، فهي تعكس في مشاهدها.. عملية حرث الأرض وبذر البذور.. ورعاية مزارع الكروم»( قاسم: 400). كما اشتملت القطع الفسيفسائية الأخرى على عدة مواضيع غير الطبيعة مثل المشاهد الأسطورية ومشاهد الحياة اليومية المتنوعة، وهذا ما يعبر عنه زيربو بقوله: «ما دامت الصورة تفصح أحيانا مثلما تفصح الكتابة، يمكن لنا أن نجزم بأن الفن الجداري الأفريقي هو أول كتاب تاريخ لهذه القارة». مع العلم أنه وللأسف لا توجد دلائل ثابتة لخلق تصور شامل عن هذه البدايات، وهي أمور تحمل من الشك أكثر من اليقين، ويصعب كثيرا ترتيب هذه الأعمال زمنيا ومكانيا ووضعها في إطار كرنولوجي دقيق، وذلك لوجود فجوة وخصاص كبيرين في المصادر التاريخية.
وتجدر الإشارة إلى وجود تراث غني من المنقوشات الأخرى، ممتد في أغلبه من القرون الأولى التي سبقت عصور الميلاد إلى بداية التوسع اليهودي والمسيحي في شمال أفريقيا، بحيث «تأكد اليوم وجود طائفة يهودية بموريتانيا الطنجية، فلقد تم العثور بسلا على لوحة رخامية عليها نقوش بالإغريقية، وبوليلي على شمعدان كبير ذي سبعة فروع، وعلى ثلاثة أنصاب جنائزية يمكن التأريخ لها بالقرنين الثالث والرابع الميلاديين، كتبت إحداهما بالعبرية والثانية بالإغريقية والثالثة باللاتينية، ويشير اثنان من هذه الأنصاب إلى وجود بيعة بوليلي» (م. القبلي:137).
إضافة إلى ألواح ومنحوتات على شرائح صخرية.. شملت أعمالا أدبية وتاريخية ذات طابع جنائزي وحمولة عقائدية كهنوتية وتراتيل دينية وأشعارا ملحمية وسجلات من رحلات أسطورية وسيرا ذاتية وحوليات وغيرها.. التي يمكن اعتبارها كذلك من البدايات الأولى لتأسيس وتوثيق الفعل الأدبي الأمازيغي المكتوب.
إذن، في مخاض البدايات الجنينية الأولى للتاريخ الثقافي الأمازيغي وبالاستناد إلى المعلومات والمعطيات البسيطة المتوفرة، التي من خلالها يمكن أن نكوِّن تصورا نسبيا عن حضور أشكال مختلفة من الإنتاجات الأدبية التلقائية المصاحبة لحركة الإنسان الأمازيغي خلال قيامه بأعمال طقوسية تخص العبادات أو غيرها من مختلف أنواع الأنشطة البشرية العادية. في هذا المعنى يشير (مارمول) في كتابه (أفريقيا) واصفا طريقة الأمازيغ القدامى في الصيد: «وإذا عثر الصيادون على جحر الضبع قصدوه وهم يغنون على نغم الدفوف»، ويواصل قوله بأن «السكان النوميديين والليبيين يتعاطون كثيرا الفصاحة والشعر، فينظمون قصائد مقفاة.. يتغنون بها في لطافة على أنغام الدف»، هذه العبارات التي يفهم منها أن الشعر الغنائي كان ملازما للإنسان الأمازيغي القديم في سكناته وتنقلاته، وهي ممارسة إبداعية لايزال جسد المجتمع حتى اليوم ينبض بها، فنجد أن جل الإنتاجات الشعرية الأمازيغية جاءت مصاحبة لأعمال يومية عادية دأب المجتمع على ممارستها.
بلا شك، أن كل شعوب العالم تنتج كميات أدبية تحتل حيزا يوازي حجم أنشطتها اليومية العملية والفكرية.. وبأنماطها الابتكارية الفريدة، وهذا ما يؤكده تباين واختلاف في الحضارات الكونية. فعبر آلاف الأعوام؛ لم ينضب ولم يتوقف الإبداع لدى المجتمع الأمازيغي، ويبقى تاريخ الشمال الأفريقي غنيا بالتحولات والأحداث المتواترة التي عرفتها المنطقة، واستطاعت أن تنتج موروثا وافرا وغنيا، إلاّ أنه ومن بين أكبر المشاكل التي تواجه الدارسين، سواء للتاريخ أو للأدب الأمازيغيين، الإلمام بمحتوى هذا التراث المادي والرمزي المفقود والعميق الجذور، ولكنه على الرغم من وجوده في عزلة طويلة، إلاّ أنه من المستحيل كذلك التكهن بوجود فراغ إنتاجي أدبي، فالأمر غير مقبول أن يبقى المجتمع الأمازيغي طيلة هذه الفترات المتعاقبة بدون رصيد فكري وأدبي مواز.
*كاتب أمازيغي ـ المغرب
سعيد بلغربي*