فيروز الثقافية…..فيروز السياسية

رسالة الخطأ

Deprecated function: preg_match(): Passing null to parameter #2 ($subject) of type string is deprecated in rename_admin_paths_url_outbound_alter() (line 82 of /home/amicinf1/public_html/sites/all/modules/rename_admin_paths/rename_admin_paths.module).
اثنين, 2014-06-09 12:18

ثمة من يتعمد اخراج الفنانة الكبيرة فيروز من سياقها كظاهرة تاريخية وثقافية في الذاكرة الفنية العربية، ويضعها في متاهات الحسابات والحساسيات السياسية والدينية، وفي الخرائط السرية للخنادق المتقابلة، وربما عند متاهات الصراعات الايديولوجية والطائفية والمناطقية..
هذا التموضع تحول- عند البعض- خلال الاشهر الاخيرة في بيروت- في ظل الصراع المستعر بين فرقاء الازمة- الى نوع من المجاهرة بحرب غير سياقية، حرب ضد الذاكرة اللبنانية، وضد الجماليات الفيروزية بشكل خاص، اذ استعاد العديد من (امراء حرب الطوائف) اوهامهم العصابية، وانتهوا الى وضع فيروز في (شرشحة) حربهم المفتوحة، تلك الحرب التي يمكن تأجير بعض دكاكينها لحسابات الرئاسات والحكومات والطوائف والميليشيات، ولمسار المعطيات السياسية المعقدة والغرائبية في لبنان مابعد الحروب العربية الجديدة، حدّ ان هذا البعض صار يسوّق اتهامات افتراضية وتأويلية هنا وهناك، لاسيما بعد تصريح الفنان زياد رحباني- نجل السيدة فيروز- بأفكار واراء قد تكون جزءا من اسرار البيت العائلي الرحباني، او تكون محض افكار ومواقف شخصية، لكنها للاسف تضخمت وتحولت الى ما يشبه الضجة السياسية، لان فيروز في حسابات واهمة هي صورة للكائن الفائق واللامنتمي! وحالة فوق الخنادق، وعابرة للمراثي الطائفية..
كيف يمكن الحديث عن فيروز الانسانة والفنانة اذا؟ وماهي الحسابات التي يمكن مراجعتها عند الحديث عن فنانة بمستواها، فنانة كانت شاهدة على تدفق الرومانسية العربية، وعلى تشكل وعيها المديني، وعلى احلامها وحروبها القومية واحزانها وخراباتها، فضلا عن حروبها الاهلية الاشد رعبا ويلاما، مثلما هي شاهدتها على الخراب البيروتي، وعلى الحروب الاكثر وحشة ورعبا في حارتها وزواياها وبين فرقائها الموزعين على الطوائف والاماكن والاحزان والمقاهي والاحزاب والاوهام…
فيروز غابة من الاصوات الفائقة في عذوبتها، وشغفها، انها تمسرح الاشياء حولنا، تمنحها نوعا من الحسية الصائتة بافراط، ، اذ تستغرق بنا حدّ انها تصطنع عبر هذه الاصوات روائح وغوايات للامكنة والموجودات، فهي كثيرا ما تثير فينا نزعة الانصات او التلذذ بجسدانية الجملة الموسيقية والغنائية، واظنها تعود بنا في لحظات مفارقة الى ما يشبه الصحو حقا، مقابل مانحن مجبولين عليه في التاريخ من نوم كثير، وكلام كثير، وحروب كثيرة، وموتى كثيرين. 
وسط هذا الصحو لا يمكن الحديث عن الوجه السياسي الواقعي او الافتراضي لفيروز، ولا حتى الوجه الطائفي لها، لانها امراة كونية، حدّ ان صوتها الاسطوري يعني لنا دائما، صحوا صباحيا، ولذة صباحية مثل الجريدة وفنجان القهوة وموعد العمل وقبلة الصباح…انها الغواية الصوتية الضرورية، والمحرضة على اعادة حسابات اللذة في النفس والمكان واللغة، اذ يمارس معنا الصوت الفيروزي نوعا من التطهير، ذلك الذي يوهبنا احساسا عميقا بالخلاص والنشوة والامل، مثلما يمنح الكثير من الشفرات السردية لاستدلال الروح العميقة في الامكنة والمدن، يضفي عليها الوانا اخر، ومعان اكثر اتساعا للقراءة وللتأويل، يغسلها من غبار الجغرافيا والتاريخ والعطب، ويخرجها من كل صناديق الحروب والسياسة والمراثي والخيانات، ويضعها في سياق من التجلي واللذة، يمنحها روحا اكثر اشراقا، لذا نقول دائما: اذهبي يا فيروز نحو كل مدننا المحاربة لكي يدرك المحاربون ان حروبهم واوهامهم غير غنائية وغير قادرة على تلوين المدن بالبهاء..
فهل يمكن ان يكون صوت فيروز تغريبا بريختيا في وجداننا الشقي؟ وهل يمكن ان تتحول فيروز الى الاقرب شبها من (الام شجاعة) تلك التي تقدّم لسامعيها- في المشهد المسرحي الملحمي- وصايا في بطولة الانسان وتعالي روحه الباحثة عن الخلاص والتطهير؟ ازاء هذه الاسئلة، يمكننا القول باننا نحتاج الى زمن من الفيروزات، لكي نواصل فعل الادامة في ثقافتنا الانصاتية الشائهة، ولكي نهذب ذائقتنا التي يبست واختلط فيها غبار الحرب مع رائحة اصواتنا المتحشرجة بالعواء والغضب، الغضب على بعضنا البعض، مثلما هي حربنا على بعضنا البعض.
البعض بات يتحدث بغضب عن وجه اخر لفيروز، ويضع بعض مواقفها في خانات السياسة والدين والايديولوجيا بوصفها ذات حساسية مؤدلجة، والبعض الاخر يقول لماذا تتحدث فيروز هكذا!! وهي العابرة لكل شيء، حدّ انهم حولوها الى ايقونة لا شأن لها سوى ان تغني للجميع من الفقراء والاغنياء والحزبيين والثوار والرجعيين والقتلة ورؤساء الجمهوريات ورؤساء العصابات ورجال الدين والصنايعية ورجال الميليشيات….رغم ان فيروز المواطنة تملك حقا دستوريا وثقافيا في ان تقول ما تشاء وان تختار ما تشاء.. 
منذ سنوات وضعها البعض في زاوية ضيقة حينما غنت في دمشق، وكأن دمشق مدينة خارج التاريخ والعروبة والكتابة، وانها جزء من مدن الجحيم، واليوم يضعها بعض اخر في خانة الخيارات والخيارات المضادة، في محاولة لتهميش انسانية ومواطنية وغنى هذا المرأة التي يفوق صوتها في غناه اكثر من نصف ابار البترول العربية..
هذا البعض وذاك البعض الاخر راهن على فيروزته السياسية والطائفية، لكن فيروز التي تغني صحّت الجميع من نومهم واوهامهم، اذ ظلت الاغنية التي تصوغها في صباحاتنا المكتظة بالغبار والعتمة عامرة بالوعي، وباذخة في سحرها ولذتها وتطهيرها، صوت يغني للانسان والامل والحرية والجمال والمستقبل والانتماء، صوت عابر للمدن والامكنة، عابر للذائقات المختلفات، والنفوس الضاجات المهووسات..
محنة فيروز تعكس في الجوهر محنتنا الثقافية، محنة الوعي العربي المحارب، الوعي الخشن والمتورط حد الهوس في خنادقه وحروبه القومية والطائفية والايديولوجية، فرغم تسابق الناس من كل حدب وصوب ليسمعوا دقات مطرها على شبابيك ارواحهم، الا انهم يريدون منها ان تظل بلا احلام ولاخيارات شخصية، او ربما يضعوها في صناديق سردياتهم الشوهاء..
فيروز غنت لدمشق المدينة ولم تغن لحاكم فيها، مثلما غنت لبغداد وبيروت، التقت مع المدن في نوبة من العشق الافلاطوني، بادلتهن الاعتراف والغفران والبكاء والصحو، ليس لان هذه المدن تعيش حروب الغزاة وحروب الغبار وحروب الطوائف، بل لانها مدن تبحث عن الحياة والحرية، عن استعادة التاريخ بوصفه ليالي الاسحار والامجاد والاحلام الباذخة….
فيروز جاءت الى هذه المدن من بيروت المدينة التي تقف عند حافة العاصفة، تحمل اغنيتها الرسولة، اغنيتها الكونية، اغنيتها المملوحة بالروح الرحبانية العالقة فينا مثل بوحنا، ومثل قبلات حبيباتنا، ترشّ على روؤس سامعيها صحوا لذيذا، صحوا يشبه النعاس ويناقضه في آن معا، قدمت في بغداد قصيدة بغداد والشعراء والصور، وفي دمشق مسرحية(صح النوم) لينبلج صباح جديد، يذكرنا بسيولة الايام حولنا، وان فزعنا من الاخر هو وهم ضال، اذ ان الاخر هو الذي يشاطرني الحلم، والحكاية ذاتها، والارض ذاتها..
فيروز اعطت للمكان العربي دهشته، افرغته من طغاته وحروبه، لتضعه عند سياق المكان الثقافي، مثلما اعطتنا ايضا اطمئنانا بان الرسالة الثقافية تكمن ايضا في الجمال الذي تصنعه الاغنية والمسرحية واللوحة والفيلم، اذ توهبنا هذه الصناعة الثقيلة مصولا او ترياقات تقينا سموم الحروب اليومية والحروب اللغوية والحروب السياسية.. 
نحتاج حقا الى جرعات فيروزية على الدوام لنتخلص من بقايا غبار المعركة!!!
٭ كاتب عراقي

علي حسن الفواز