مع أن كثيراً من الدول نالت استقلالها، غير أن الاستعمار الكلاسيكي أبقى على آثار ومخلفات صاغت مصائر الشعوب التي خضعت لفترة طويلة إلى الهيمنة، وتتمثل تلك المخلفات بما يمكن أن نطلق عليه «السياسة الاستعمارية» التي انتقلت كجرثومة من المستعمِر إلى المستعمَر. إن التساؤل عن كيفية اشتغال السياسة الاستعمارية، وحدودها يبدو مبرراً، بل يكاد يكون حاجة لما تختزنه هذه السياسة من أثر في تشكيل عالمنا اليوم، خاصة لدى بعض الدول غير القادرة على تلمس طريقها نحو عالم أفضل، نتيجة ضغط تلك السياسات التي أتقنت الشعوب المستعمَرة تعلمها وتطبيقها، ولكن من منطلق الهيمنة في الوطن.
أهم ما يميز السياسة الاستعمارية اتسامها بالشمولية التي تكاد تكون مثالية ومُحكمة الصُنع، فإذا ما تتبعنا حدودها وملامحها، فإننا سنعثر على الكثير مما يساعدنا على فهم سلوك الدول التي نالت استقلالها، ولاسيما في ظل ما تعانيه هذه الدول من انهيار قيمي وحضاري شامل. فرحيل الاستعمار لم يحُلْ دون بقاء سياساته الاستعمارية (أنساق الهيمنة) التي كمُنت حيث يُعاد تبنيها من جديد من قبل التابع (سابقاً) كي تمارس وعياً جديداً في العقول ذاتها التي ناضلت لسنوات من أجل تحررها، بيد أن تلك العقول سرعان ما تعود لتمارس السياسة الاستعمارية عينها على الكيانات الناشئة لضمان بقاء السلطة والهيمنة على جزء من الأنا المُهمشة مقابل الأنا النخبوية.
إن الاستعمار في جميع أنحاء الكرة الأرضية انطلق من تلك التوجهات الواعية لكتل إمبريالية، رأت في الجغرافيات البعيدة عن مراكزها فضاءً، يمكن أن يُستثمر بأقصى حدوده وإمكانياته، غير أن هذه الوعي الاستعماري بدا أقرب إلى تلك الصدمة، أو ذلك الاختلال في آليات الفهم، والتفسير، ولا سيما حين تمارس السياسة الاستعمارية في المراكز عينها التي استباحت فضاء الآخرين حين أخضعتهم لنظام اتباعي مُحكم، أو لنقل أنه مشغول بعناية كونه اتسم بنهج، أو سياسة استعمارية واضحة الملامح، غير أن التساؤل يبدو مشروعاً أيضاً، حيث نبحث في المنظور الذي تُعاين من خلاله تلك السياسة، وهذا تبعا لموقع تحول التابع والمتبوع.
ثمة صدمة تبدو أكبر مما يمكن لأي أوروبي أن يتقبلها إزاء ممارسات هتلر في أوروبا، بيد أن ما لا يغفره البورجوازي الأوروبي ليست الجريمة بحد ذاتها، أو الجريمة التي ارتكبت بحق الإنسانية، بل إن ما لا يغفره الأوروبي أن تلك الجريمة جاءت بحق الإنسان الأبيض، فهتلر مارس على أوروبا الأساليب الاستعمارية ذاتها التي كانت تُمارس على العرب والهنود والزنوج، كما يذكر مارك فرو في كتابه «الاستعمار الأسود». لا شك في أن أوروبا قد سبقت في تحليل السياسة الاستعمارية كما تجلت في صورتها الفاشية أو النازية، أو الشيوعية وغيرها، فالمستعمرون غالباً ما يتناسون الجرائم والفظاعات التي ارتكبوها بحق الآخرين، بل على العكس من ذلك، إذ تُمجد هذه الجرائم في بعض المناهج المدرسية، خاصة في مناهج الدولة الفرنسية وبريطانيا وسائر الدول الاستعمارية لزمن قريب. ومع أن تحليل السياسة الاستعمارية يقودنا إلى مبررات الاستعمار التي تحال إلى عوامل تبشيرية، أو بهدف تصدير الحضارة إلا أنها تبقى مسوغات، أو منطقا ذرائعيا، فالاستعمار في النهاية، يعلل بقيمة المصلحة (الاقتصادية) التي يمكن أن تغير مجرى التاريخ، والخروج بالكثير من التداعيات والصور الماضوية المختزنة في ذاكرة كل من عانى من هذه التجربة.
لا شك في أن تحليل بعض السياسات الاستعمارية، يمكن أن يقودنا إلى فهم حاضرنا ومستقبلنا، في ضوء التجربة الاستعمارية، فالسياسات باتت نسقاً أو مرجعية لسلوك جمعي اتصفت به بعض الشعوب التي خضعت للاستعمار، ولعل أهم تلك السياسات الإخضاع الكلاسيكي (الاحتلال)، الذي تحول في ما بعد إلى ثقافة عنف، ورغبة بإخضاع الآخر بالقوة، وهنالك السياسة ذات الطابع الديني، كما فعلت معظم الدول الاستعمارية التي حاولت إحلال قيم العلمانية كبديل للدين، ولهذا نجد أن فرنسا سعت إلى نزع العروبة والإسلام لدى بعض السكان فيالجزائر والمغرب، والنسق عينه تكرر في إندونيسيا حيث حاولت هولندا الاستفادة من العرق الهندوسي في تشكيل خريطة القوى الدينية، وهنالك أيضاً سياسة التخلص من غير المرغوب فيهم، حيث نُفي الكثير من المجرمين إلى بعض الجزر والمستعمرات، وفي كل الأحوال، فإن وضع قائمة بتلك الممارسات الاستعمارية، وسياساتها قد يطول بنا، ولكن الذي يعنينا ما شهدناه ونشهده من تحول نحو ابتكار سياسات استعمارية جديدة، بالتجاور مع توظيف التقليدي منها، فاختلاف المسميات والفاعلية أو المفعولية يبدو ضئيل الأثر، فالجدير بالعناية ما نراه من اتخاذ تلك السياسات تموضعها في الوعي الإنساني بوصفها أداة للهيمنة، فأينما يحل الاستعمار يخلف وراءه سياسات، أو ممارسات استعمارية تستمر في ظل وجود تلامذة نجباء من نخب ذات ولاءات سابقة للمستعمِر، أو من قبل مجموعات وطنية ناشئة، تسعى لتبني السياسات عينها، وربما يُلجأ إلى ابتكار سياسات بمظاهر، وآليات جديدة من أجل تحقيق تابعية دائمة لقيمة مصلحية لمجموعة معينة، أو لتعمل بوصفها أداة تكفل تحقيق تابعية دائمة للعقل الأوروبي، أو الغربي المتفوق، أو لتحقيق تابعية لتنظيم، أو أيديولوجية معينة، كل ما سبق بمعزل عن الولاء للوطن، أو حتى أدنى استشعار لقيمة الإنسان وحريته.
تمثل سياسة تكريس عدم المساواة أبرز ما لجأت له المنظومات الاستعمارية، فهنالك بعض الأعراق غير قابلة للتقدم كما هو شائع في أدبيات الاستعمار، ولكن مع غياب الاستعمار الكلاسيكي، إلا أن هذا التوصيف استمر، ولكن بين تشكيلات الوطن الواحد، وتحديداً عبر ممارسة قامت بها فئات من أبناء الوطن الواحد التي أغرقت في هذا التوجه حين تعاملت مع بعض مكونات شعوبها من مبدأ التصنيف والاختلاف، حيث نظرت له بوصفهم أعراقا، أو طوائف أو جماعات أدنى مرتبة، وهذا تبعاً لعدد من المبررات والمسوغات. هذه الأعراق الأقل مرتبة غير قابلة للتقدم، ولهذا ينبغي إعادة توجيهها كي تكون تابعاً جديداً، وهذا تعزز بالاتكاء على مقولة الاختلافات الوراثية، وفكرة النقاء، ولهذا برز معنى الحرص من بروز أعراق هجينة، وبهذا تكون الدولة قد قامت على ثنائية شعوب نقية، وشعوب أدنى عرقياً، أو مختلطة العرق، وهذا سمح بإطلاق الكثير من التعميمات تشابه ما اعتمده الخطاب الاستعماري، بيد أن هذه التعميمات مارستها الشعوب المستعمَرة تجاه بعضها بعضا، ولهذا وجدت مجموعات تتصف بالكسل، والجبن، والخداع، والخيانة، وحتى الكفر، وكل ذلك لتسهيل إيجاد مسوغات للهيمنة على بعض الفئات المكونة للمجتمع.
ومن أبرز السياسات الاستعمارية التي تُمارس الاعتماد على نظام يحدد خصائص السكان، حيث يسارع إلى تصنيفهم إلى مستويين: مزارعين ورجال الإدارة، وهنالك فعل الوصم للدنو الثقافي، وافتقار سمات التحضر حيث تكون هذه السمات محصورة بمجموعات معينة، وهنا نلاحظ أن هذا النسق كان قائماً إبان فترة الاستعمار، غير أنه أُعيد إنتاجه، بل سُعي إلى تحقيق تطوير بنيته الخطابية بعد الاستقلال، وهكذا أضحى عقيدة للدولة وأنظمتها، وهذا ينسحب على بعض فئات الشعب وممارستها، كما نشهده على سبيل المثال في معظم الدول التي نالت استقلالها من إقصاء يقوم به جزء من الذات الوطنية لجزء آخر، وذلك عبر اللعب على البعد الديني، والاختلاف العقدي، أو الطبقي، أو العرقي، أو المجتمعي، ولن نُبالغ إن قلنا إن هذا النسق بات أقرب إلى ثقافة تمارس في الشارع والمدرسة، وحتى بين أبناء الحي الواحد.
وبهدف رسم صورة لاستمرار سياسة استعمارية محددة، ألجأ إلى نموذج أو مثال محدد، ففي الجزائر كان لدى الفرنسيين اعتقاد بأن العرب غير قادرين على تنظيم أنفسهم، ومع أن هذه النظرية فسدت، ولا سيما حين انبثقت وتصاعدت الحركة الوطنية في الخمسينيات، فكان لا بد للفرنسيين من ربط هذا التنظيم والحراك بمصادر خارجية، حيث ادعى الفرنسيون بأن الأمريكيين والسوفييت هم الذين ساعدوا الجزائريين في تنظيم أنفسهم. هذا النسق نراه ماثلاً إلى الآن في بعض دول آسيا وأفريقيا، فعند انبثاق أي حراك شعبي أو نقابي، يُطالِب بالتغيير، أو يسعى لمناهضة بعض السياسات الداخلية يُسارع إلى ربط هذا المجهود بأطراف خارجية، ومن هنا يجب ألا ينظر لهذا النشاط بوصفه حقاً مشروعاً، أولا ً لكونه طارئاً، وثانياً لأنه مدعوم من قبل أطراف خارجية، تبعاً لافتقاد من قاموا به للقوة التنظيمية، أو للتنظير الأيديولوجي، فهم غير مؤهلين نظراً لقصور ثقافي تتصف به هذه الفئة الأدنى.
إن غياب الأفكار ومهارات التنظيم، وإطلاق التعميمات والتمثيلات، يمثل سمة ابتدعت لنزع كل ما يمتلكه الآخر لنفي المؤهلات الحضارية، وهذا يعود إلى منظومة من السياسات الاستعمارية التي أتقنت الشعوب المستقلة تعلمها، وتطبيقها – في الوطن الواحد – تجاه جزء من الذات الوطنية، وهذا يعني بالضرورة استلاب معنى الوجود عن الآخر (فرضياً)، الذي هو في الحقيقة عين (الذات) التي ينفى بعضها إلى منزلة أدنى مقابل المهيمن الذي يتبوأ صدارة المشهد، وهكذا بتنا نشهد يومياً إقصاء الذات للذات حيث تتوارى السمات المائزة للمعنى الحضاري، وتستلب منها، وهذا يكفل للمهمين مبرراً ومسوغاً لائقاً، ومقبولاً. فالاستعمار، وإن غاب بمظهره الكلاسيكي المباشر على مستوى الدول، إلا أنه ما زال حاضراً عبر سياساته التي باتت تقاليد ينبغي لكل من يسعى للهيمنة، وأنساقها تفعيل أدواتها، ولكن للأسف، فإنها غالباً ما تمارس بين أبناء الوطن الواحد حتى في أضيق المحافل، وأبسطها.
كاتب فلسطيني ـ الأردن
رامي أبو شهاب