لم أكن أفكر إطلاقا في الكتابة عن العملية التي تم تنفيذها ضد صحيفة “شارلي أبدو”، وذلك لأسباب وجيهة سأشير إليها لاحقا في هذا المقال، ولكن منشورا طالعته في الصفحة الشخصية لأحد أصدقائي على الفيسبوك جعلني أغير من موقفي هذا.
لقد كتب صديقي هذا على صفحته الشخصية بأنه لا يزال حائرا بسبب عملية “شارلي أبدو” فهو لا يستطيع أن يدينها، ولا يستطيع كذلك أن يناصرها. هذه الحيرة التي عبر عنها صديقي هذا، والتي أصابت الكثير من الناس بعد علمهم بالعملية، هي التي جعلتني أغير وجهة نظري، وأكتب هذه الملاحظات السريعة عن عملية “شارلي أبدو”.
بدءا لابد من التذكير بأننا نعيش في زمن الفتن، وفي زمن الفتن لا يمكننا أن نفصل و بشكل كامل بين الحق والباطل، فلا يمكننا أن نوزع كل ما يجري من حولنا من أحداث على خانتين: خانة للحق الخالص، وخانة أخرى للباطل الخالص.
للأسف لم يعد بإمكاننا، في زمن الفتن الذي قدر لنا العيش فيه، أن نصنف الأمور بين حق خالص وباطل خالص. لا يمكننا أن نصنف عملية “شارلي أبدو” بهذا التصنيف ، فحتى الذين اعتبروها عملا وحشيا هم يعلمون إذا ما صدقوا مع أنفسهم بأن في هذه العملية شيئا من البطولة، وشيئا من الحق, والذين اعتبروها عملا بطوليا هم يعلمون أيضا، إذا ما صدقوا مع أنفسهم، بأن فيها شيئا من الوحشية، وشيئا من الباطل.
وخلاصة هذا القوس الذي كان لابد من فتحه من قبل سرد أربع ملاحظات سريعة عن العملية هو أن هناك شيئا من باطل في عملية “شارلي أبدو”، وبأن هناك شيئا من حق في عملية “شارلي أبدو”، وبأن المطلوب منا هو أن نحاول أن نفيس نسبة الحق ونسبة الباطل في هذه العملية، وأن نحدد أيهما كان حجمه أكبر، وبعد ذلك يكون بإمكاننا أن نتخذ موقفا من هذه العملية التي تباينت المواقف الحدية حولها، فهناك من اعتبرها عملية بطولية لا مثقال ذرة من وحشية فيها، وهناك من اعتبرها عملية وحشية لا مثقال ذرة بطولة فيها.
الملاحظة الأولى : هذه العملية لا تخدم الإسلام والمسلمين، ولا يمكن أن نضعها في خانة الأعمال المناصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى وإن كان من نفذها قد نفذها انتصارا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنه علينا أن نعلم بأنه كلما ابتعدنا عن لغة العنف، وكلما اقتربنا من لغة العقل والحوار كلما كان ذلك في صالح الإسلام، وفي صالح انتشاره في الغرب. وعلينا أن نتذكر بأن الإسلام قد وصل حتى إلى بعض أولئك الذين شاركوا في الإساءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعلنوا عن دخولهم في الإسلام، ودون أن يكون هناك أي سلاح يهددهم عند إعلان دخولهم في الإسلام.
الملاحظة الثانية : إن الحكومة الفرنسية مع غيرها من الحكومات الغربية تتحمل الجزء الأكبر مما حدث، فلو أن الحكومة الفرنسية استجابت لطلبات مئات الملايين من المسلمين الذين خرجوا في مسيرات سلمية، أقصى ما كان فيها من عنف هو أنهم أشعلوا أعلام بعض الدول الغربية أمام مقرات سفاراتها، فلو أن الحكومة الفرنسية استجابت لتلك الاحتجاجات السلمية، وقررت أن تعاقب من أساء إلى مقدسات المسلمين لما حدث ما حدث، ولما وجد البعض فرصة للهجوم على مقر صحيفة “شارلي أبدو”.
لقد بررت الحكومات الغربية عدم استجابتها لمطالب مئات الملايين من المسلمين السلميين بقدسية حرية التعبير، فعن أي قدسية لحرية التعبير يمكن أن يتحدث الغرب، ونحن نعلم بأن هذه القدسية تنهار، وبأنه يرمى بها في الزبالة عندما يتجرأ أي إعلامي أو أي كاتب أو أي مؤرخ أو أي سياسي على أن يشكك في المحرقة، أو أن ينتقد العدو الصهيوني بشكل حاد.
الملاحظة الثالثة : إن على المسلمين في فرنسا أن يدينوا هذه العملية بقوة، وعليهم أن يكونوا في الصفوف الأمامية في أي احتجاجات أو أي مسيرات تدينها، وإذا ما ثبت بأن مواطنين فرنسيين هم من نفذ هذه العملية، وبأن ضحاياها هم أيضا من المواطنين الفرنسيين، فعلينا أن نبتعد عن تدويل هذه القضية، وعلينا أن لا نضعها في خانة الصراع بين الغرب المسيحي والمسلمين. هذه العملية علينا أن نعتبرها شأنا فرنسيا داخليا، إنها عملية نفذها مواطنون فرنسيون ضد مواطنين فرنسيين، نقطة رأس السطر، ولا يهم بعد ذلك ديانة من نفذها، ولا ديانة من نفذت ضده، فالكل يحمل الجنسية الفرنسية، وقيم الجمهورية الفرنسية، وحسب ما يقال لنا، لا يمكن أن تلصق جريمة بأفراد آخرين لا ذنب لهم إلا أنهم يشتركون في الديانة مع من نقذ تلك الجريمة.
الملاحظة الرابعة : إنه من الخطأ أن ندين هذه العملية التي نفذت ضد صحيفة نبغضها كثيرا، وكنا نتمنى أن يخسف الله بها الأرض بما فيها وبمن فيها، فنحن عندما ندين هذه العملية نكون قد وقعنا في جرم كنا ننتقد عليه الغرب، أي أننا نفاضل بين دم الإنسان الغربي، ودم الإنسان المسلم لصالح الأول، مع أن العكس هو الذي كان يجب أن يحصل. نحن لم نسجل أي إدانة لأي من هذه العمليات الإرهابية التي تحدث في العديد البلدان الإسلامية، والتي يروح ضحيتها العشرات بل والمئات من المسلمين، فكيف لنا أن ندين هذه العملية التي حدثت في فرنسا، والتي لم يمت بسببها إلا العدد القليل من المواطنين الفرنسيين؟
نحن اليوم عندما ندين هذه العملية نكون بذلك قد تبعنا وقلدنا الغرب في سياسته الخبيثة وفي عنصريته البغيضة التي تجعل من قتل عشرة أشخاص في فرنسا جريمة شنعاء يجب أن تهتز لها قارات العالم الخمس، أما قتل الآلاف من المسلمين فهو مجرد حدث عابر، لا يستحق أن يستنكره أي أحد في العالم، ولا يستحق حتى قلق ” بان كيمون”، والذي ليس لديه من عمل يفعله سوى أن يعبر عن قلقة من حين لآخر.
خلاصة القول : إن عملية “شارلي أبدو” هي عملية لا تخدم الإسلام والمسلمين، حتى وإن كان قد تم تنفيذها ضد صحيفة بغيضة، نتقرب لله ببغضها، وعلى المسلمين الذين يعيشون في فرنسا أن يدينوا وبقوة هذه العملية، أما غيرهم من المسلمين الذين لا يعيشون في فرنسا، ولا في الغرب، فكان أولى بهم أن يتجاهلوها، وإذا لم يكن بالإمكان أن يتم تجاهلها بعد هذه الضجة الإعلامية الكبيرة التي صاحبتها، فإن عليهم، على الأقل، أن لا يدينوها، لأنهم بإدانتهم لها يكونون قد وقعوا في الفخ، أي أنهم قد جعلوا من كل قطرة دم تسيل من أي مواطن غربي كارثة كونية، أما أن تسيل أنهار وبحار من دماء المسلمين، فإن ذلك مجرد حدث عادي لا يستحق أبسط أنواع الإدانة.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل