شنّت السلطات الأمنية في موريتانيا أخيراً حملة واسعة النطاق ضد السحرة والمشعوذين الذين ينتشرون في شوارع العاصمة نواكشوط، وتحديداً في شارع “العيّادة المجمّعة” المشهور وسط المدينة.
يتخذ السحرة من هذا الشارع المحاذي لأحد أكبر المراكز الصحية في نواكشوط مكاناً لعرض خدماتهم واستقبال الزبائن الذين يفدون إليهم من كلّ أنحاء البلاد. وإذا كانت الحملة الأمنية قد أسفرت عن طرد المشعوذين من أكبر تجمع لهم داخل نواكشوط، فإنها سلّطت الضوء أيضاً على ظاهرة الانتشار الواسع للسحر والشعوذة والخرافة في المجتمع الموريتاني.
تعود جذور السحر إلى عصور سحيقة، إذ كشفت الدراسات الأنتربولوجية للشعوب البدائية عن وجود نمط من التفكير لدى هذه الشعوب التي عاشت معزولة عن العالم، يختلف جذرياً عن التفكير العقلاني والعلمي. ويُبنى التصور السحري للعالم على الإيمان بوجود قوى خفية كالأرواح والشياطين، تؤثر بشكل قوي ومباشر على الطبيعة وعلى حياة الإنسان.
وإذا كان التقدم العلمي والتقني أدّى إلى تراجع دور السحر والشعوذة في حياة البشر، فإنّ السحر لم ينقرض من عالمنا الراهن، لكن انجذاب المجتمعات البشرية نحوه يختلف تبعاً لنضجها الفكري والاجتماعي ونمط العقائد الدينية السائدة فيها. ففي حين يلاحظ اقتصار السحر والشعوذة في المجتمعات المتقدمة على النشاطات الترفيهية والفولكورية، لا تزال بعض مجتمعات العالم الثالث مرتبطة جداً بعالم السحر والشعوذة والغيبيات.
تُعدّ موريتانيا من أكثر البلدان التي ما زالت تشهد انتشاراً واسعاً للسحر والشعوذة وإن أخذ هذا الانتشار أشكالاً متعددة، تحت مسميات شتى. وذلك لكون السحر قد اصطدم منذ البداية بموقف الشريعة الإسلامية التي تحرّمه تحريماً قاطعاً وتجرّمُ ممارستهُ. طوّر الموريتانيون علماً آخر لا يقلّ غرابة عن السّحر وإن اختلف عنه في كثير من التفاصيل، هو علم “سر الحرف” أو “الحجَاب” واسع الانتشار في موريتانيا. يدّعي المشتغلون بهذا العلم امتلاكهم قدرة خارقة في التّواصل مع “الجِنّ” وتسخيرهم لتأدية مهمّات لأغراضٍ بشريّة.
الجن في كل مكان
يرتبط “سرّ الحرف” بالاعتقاد بوجود الجن ويتّخذ منهم مبرر مزاولته. ولعل سبب انتشار هذا العلم وازدهاره في موريتانيا يعود إلى حضور الاعتقاد بالجن في الثقافة الشعبية، حتى إن أي حدثٍ غريب أو غير اعتيّادي، وكل تغير دراماتيكي في حياة شخص أو عائلة، كثيراً ما تتم نسبته تلقائياً إلى الجن.
يتجنّب الموريتانيون أماكن معينة كالمسالخ ومكبّات القمامة وأثار غسيل الملابس والمنازل المهجورة، لاعتقادهم بأنها مسكونة بالجن والشياطين. إضافة إلى ذلك، يسود الاعتقاد بوجود أشخاص لهم قدرة خاصة على التحوّل أو “المَسخ” في أشكال حيوانات ووحوش مختلفة. وهؤلاء هم “مصّاصو الدماء” أو “السلّالة” بحسب التعبير الدّارج ويُنسب إليهم كثيرٌ من الأمراض الغامضة التي تصيب الأشخاص ويعجز الأطباء عن معالجتها بالإضافة إلى أنواع أخرى من الشعوذة كالعرافةِ أو “لكزَانة”. وهي نوع ممارسة سحرية يدّعي أصحابها القدرة على التنبؤ بالمستقبل وتنتشر في صفوف النساء.
تعود جميع هذه الممارسات إلى الاعتقاد السائد عند الموريتانيين بتأثير الجنّ في حياة البشر، إلى حدّ جعل بعض الباحثين يُرجع عادة ارتداء اللثام عند الرجال في هذه الصحراء الفسيحة لاعتقادهم قديماً بأن الجن ينشرون الأمراض في الهواء.
من السحر إلى السّر
يكفي اصطلاح “سرّ الحرف” الذي يطلق على هذا العلم للدلالة على ما يحيط به من غموض، ويوضح انحصار معرفته ومزاولته في نخبة متميزة.
فالحجّاب (وهو العارف بسرّ الحرف) غالباً ما يرث هذا “السّر” عن والده الذي ورثه هو أيضاً عن جدّه.
يعتمد “سر الحرف” على كتابة الطلاسم والتمائم واستعمالها، ويعتبرالحجّاب الشخص المتخصص في رسم هذه الجداول وتحديد استخداماتها. يقوم بتقطيع حروف وأسماء وأرقام ورموز غامضة الدلالة ـ بالنسبة لغيره ـ في جداول ذات أشكال هندسية مختلفة ينشرُها ويلفّها بطريقة غريبة. تستخدم هذه الجداول والطلاسم لأغراض متنوعة كالاستشفاء من الأمراض العضوية والنفسية والتنبؤ بالمستقبل أو العثور على الأغراض الضائعة أو المسروقة، وإثارة الحب والبغض وجلب المال والتمتع بالمكانة الاجتماعية المرموقة وغير ذلك. ولكل غاية من هذه الغايات، صيغة طلسميّة خاصة بها. وكثيراً ما يتم اللجوء إلى الحجابة (جمع حجاب) لحل المعضلات الكبيرة التي يعجز المتخصصون عن حلها كالعقم والعُنوسة والفشل الأسري وحتى البطالة والقصور الذهني.
يؤثّر “سرّ الحرف” على حياة الموريتانيين نتيجة الاعتقاد والآمال أو المخاوفا لتي يحملها كل شخص تجاه هذا العلم. وقد لعب “الحجّاب” حتى اليوم دوراً كبيراً في المجتمع الموريتاني ويحظى بتقدير خاص لدى عامة الناس. وتحفل الذاكرة الشعبية بقصص لا حصرَ لها عن معجزات العارفين بهذا العلم وقدراتهم الخارقة. وإذا كان من الصعب الجزم بصدقية مفعول هذه التمائم والطلاسم، فإنه يصعب بالدرجة نفسها إثبات العكس.
يفرّق الباحث في الدراسات الإسلامية بابا أحمد ولد علين بين “سرّ الحرف” المنتشر في موريتانيا وبين السّحر. يقول لرصيـف22 “إن انتشار السحر في هذه البلاد يرجع إلى الديانات الوثنية التي كانت منتشرة في المنطقة قبل ظهور الإسلام، وإلى اختلاط العرب بالقبائل الزنجية والتأثر المتبادل بين هذه الإثنيات. علماً أن سرّ الحرف قام على مبادئ شرعية إسلامية وكان أكثر المنشغلين به يستخدمون الأدعية والرّقى المأثورة برغم وجود بعض الاستثناءات”.
ويرى الدّاه ولد الشيخ أحمد، وهو أحد المتخصصين في “سرّ الحرف”، أن هذا العلم عُرف في موريتانيا، وتطور فيها على يد مشايخ الحركات الصوفية، لا سيما الطريقة القادرية البكّائية التي انتشرت في موريتانيا وغرب إفريقيا. يعتقد الشيخ هو أيضاً أن الفرق كبير بين السحر وبين سر الحرف.
يقول: “السحرة يستعينون بالشياطين ويهدفون إلى إلحاق الضرر والأذى بالناس. في حين أن “سرّ الحرف” يستعمل فقط لإبعاد تأثير السحر وإضعاف مفعوله وعلاج الأمراض التي يسببها الجن والمشعوذون
وبرغم الانتقادات الكثيرة والجدل الواسع الذي يثيره علم “سرّ الحرف” من جهة، وأنماط السحر والشعوذة المنتشرة في موريتانيا من جهة أخرى، وبرغم الحملات الأمنية المتلاحقة التي تعرضت لها محال المشعوذين وتجمعاتهم، لا يزال الموريتانيون يميلون نحو هذه المعتقدات ويلجأون إلى أصحابها. أمرٌ حمل الشيخ للعودة إلى “شارع السحرة” بعد طرد الشرطة له ولزملائه ومصادرة خيامهم الصغيرة ليكتب اسمه ورقم هاتفه على الحائط فيبقى على تواصل دائم مع زبائنه الذين يلجأون إليه كلما شعر أحدهم بالعجزعن مجابهة مشاكله اليومية أو أراد الهروب من ضيق الحياة.
الاعلامي