شارلي ابدو" : فيما يتجاوز الثنائيات البدائية
د. محمد بدي ابنو*
"الإنسان يرى القذى الذي في عين الآخر ولا يرى الوتد الذي في عينه هو" مثل فرنسي
-1-
السردية المتداولة لاغتيال صحافيي "شارلي أبدو" غير مُــقْنعة، ليس فقط في تفاصيلها المسرّبة بل أيضا في إطارها العام. لنضع جانبا نظريات المؤامرة، ولكن ليس علينا بالمقابل أن نقيل العقل أمام الأسئلة التي تطرح نفسها.
حين نستقرئ ردود الفعل بعد مجزرة "شارلي إبدو" ندرك إلى أي درجة لا تقبل الاندفاعات الحشودية بطبيعتها ومن أي كان إلا التحاق بإجماعها، أو بما تتوهم أنه إجماعها. ووسائل الإعلام الجديدة تمثل أكبر حليف لهذه الاندفاعات ولطابعها المعادي للعقل. التأثر والصدمة والخوف وتدفق المشاعر لا يعني لمثل هذه الوسائل إلا سوقا ضخما عل الصعيدين المادي والأيديولوجي. تصبح الإثارة والتحريض والتأجيج "مبرّرة" ومنسجمة مع ذهنية المتلقي. تـصبح أبواب الأذهان مفتوحة على مصراعيها ويصبح الحس النقدي غائبا أو متبلّدا. من هنا أهمية وجسارة مواقف الذين أدانوا جريمة القتل البشعة دون أن يجعلوا من القتلى أبطالا للكلمة أو لحرية التعبير. دون أن يقبلوا أن تتحول المناسبة إلى إجماع منافق هو عكس ما تعنيه حرية التعبير... دون أن ينسوا الملايين الذين يُقتلون كل يوم بسلوك غادر في كل بقاع العالم ، قصفا أو تعذيبا أو إعداما. التعاطف مع القضايا العادلة لا معنى له إلا إذا كان كونيا. حين تكون الإدانة انتقائية تفقد أساسها الأخلاقي.
ـ2ـ
في كل يوم وفي ملايين الصحف والمنشورات والمواقع المغمورة وشبه المغمورة يوجد جميع أصناف المجانين والمهوسين من كل نوع. يشتمون كل شيء، وكل دين وكل نبي وكل مصلح وغير مصلح.. ولكن المسلمين أصبحوا مختصين في التنقيب عن أي مجهول يشتمهم بجملة، كي يمنحوه هالة عالمية بَـدلَ أن يلغوه بالتجاهل. كثير من الظواهر الإعلامية الاسلاموفوبية خلقها في البداية الذين تظاهروا ضدها. لولاهم لما كانتْ. همْ من حيث يدّعون الدفاع عن الإسلام أو عن المسلمين من يعطون للعنصريين موقعا. ومن ثمّ أصبح كل المهوسين بالحقد والضغينة على الآخر يدركون أن استفزاز المسلمين هو الطريق الأسهل. من لم يستطع بيع فيلم أو رسم أو كتاب أو أغنية تكفيه جملة صغيرة ضدّ المسلمين لكي تخرج جموع جاهلة غوغائية ضده وتضمن لمنتجه الكاسد سوقا مليونية. أصبحت هنلك لوبيات، وشركات وسياسات دول ترتكز في جوانب من خرائطها التسويقية على هذه الانفعالية البافلوفية المتزايدة لدى المسلمين.
ـ 3ـ
طبعا من السهل استثارة الغرائز السفلى في الإنسان. لاسيما حين يتمّ تحييد العقل. تصبح عنتريات الحقد والانتقام والضغينة هي وحدها التي يصفق لها الجميع ويجدها وحدها وجيهة. يصبح الاعتداء على الآخر لأنه آخر محلّ تصفيق واعتداد. تصبح ثنائية "النحن" و"الهم" هي المُبَنْيِنة. "الآخرون هم الجحيم" كما في العبارة السارترية. لقد انتقمنا منـ"هم" لـ"الحرية" أو "للقيم".
عدد من الذي يدعون أنهم يدافعون عن حرية التعبير وقيمها تماما كعدد من الذين يدعون أنهم يدافعون عن الدين وقيمه هم في الحقيقة سدنة وسيافون لعصبيات نتنة. وهي عصبيات في جوهرها معادية للتسامح والمحبة والعدل والإنصاف، معادية لمحاربة الظلم. وبالتالي معادية للدين وللحرية. إنها عصبيات ترى في أبشع الظلم عدلا حين يخدم لافتاتها أو عصبياتها المفترضة. وتجد دائما ما يكفي من التضخم اللغوي لتبرير ما تفعل وما تقول. تجد ما يكفي من احتياطي المفردات القيمية المنتفخة لتغطية المضمر الثأري العصبي الـبغيض.
ـ4ـ
يكفي النظر في أي من كتب الفرق أو الحوليات الإسلامية القديمة لمعرفة أن أغلب ما يقوله أويكتبه الآن من يسيئون للمسلمين قد قيل وكُتبَ أبشع منه منذ قرون دون مصادرة. بل واحتفظتْ به لنا آلاف المؤلفات الإسلامية. كُتب في أماكن ودول وإمبراطوريات تاريخية يحكمها مسلمون. وأن القبول بالتعدد وبالآراء الصادمة كان في الأغلب الطابع العام لدى المسلمين. وأن ثقافة الانفعال الاندفاعي الحالية هي أساسا ظاهرة حديثة وليست إرثا تاريخيا إسلاميا ومن البديهي أنها ليستْ مؤشرا إيجابيا.
ومع ذلك فلا يعني هذا قبولا مبدئيا بأي أمْثــــَلة ساذجة للماضي. فنحن جميعا، مسلمين ومسيحيين ويهودا، شمال المتوسط وجنوبه، نحتاج لحظة تأمّل ومصارحة. نحتاج أن نسائل أنفسنا وأن نبصر قبحنا قبل أن ننــظر قبح الآخر. حينها سندرك أنه علينا إذا أردنا التعايش طيَ صفحة الماضي بعد قراءتها. علينا فتح صفحة جديدة لأننا جميعا "متورطون إلى الودجين في الدماء التي تملأ بركة التاريخ".
* مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل