الأوان الذهبي .. أورهان باموك يُمتحف البراءة

خميس, 2014-07-03 18:49

تنتهي الجولة في (متحف البراءة) بغرفة متواضعة تتبعثر فيها بعض متعلقات شخصية لإنسان كان هنا ورحل، كما هو حال كل الأركان التي يزدحم بها المتحف. سرير معدني تتدلى على أطرافه بيجاما، دراجة بثلاث عجلات من زمن الطفولة، كرسي خشبي، حقيبة سفر، بالإضافة إلى منبه ومصباح وأداوات استعمالية صغيرة مصفوفة بطريقة نابضة بالحياة. حيث يتحول ذلك الحيز الصغير إلى زمن ممتد في الذاكرة.
على جدار الغرفة كُتبت عبارة على لسان كمال بسماتشي باللغتين الإنكليزية والتركية (ليعلم الجميع أنني عشت حياة سعيدة). وهي جملة مؤثرة ومحيّرة ينعدم بموجبها الخط الفاصل ما بين الحقيقي والمتخيّل. حيث جاءت هذه العبارة في نهاية الرواية بعد أن قَبّل كمال صورة حبيبته برقة متناهية، ودسّها بحذر في جيب سترته. وابتسم للراوي أورهان ابتسامة المُحب المنتصر. الذي أراد أن يقول للعالم أي امرأة كانت حبيبته.
ولكن، من هو كمال بسماتشي. إنه ابن اسطنبول الأرستقراطي، بطل رواية (متحف البراءة) الذي حكى لأورهان باموك، بخدعة تجريبية حداثية، يمتزج فيها الواقعي بالمدبّر أدبياً، حكاية حبه لقريبته الفقيرة فوسون، إبنة الخياطة البسيطة والأب المتقاعد، حيث صار مهووساً بها إلى الحد الذي صار يجمع كل متعلقاتها وما يحف بها من تذكارات قصة الحب التي جمعتهما، بدءاً من أعقاب السجائر التي دخنتها ( 4213 سيجارة). حيث يُفتتح المتحف بجدارية ضخمة لآلاف الأعقاب التي تحمل شيئاً من آثار شفتيها الورديتين، لتتوالى المشاهد في ثلاث وثمانين فترينة. كل فترينة تجسد فصلاً من الرواية، أو قصة الحب المستحيل.
في ذلك البيت الأثري الذي تمت متحفته بلمسة عصرية، تتناثر أشياء فوسون، كل ما لامس جسدها خلال الثماني سنوات التي هجرته فيها بعد أن اقترن بخطيبته البرجوازية (سيبيل) بما تمثله كل تلك الحاجيات من تاريخها العاطفي. فساتين، أقراط، قناني عطور، فرشاة أسنان، أمشاط، أوراق، بطاقات سينما، كوب ماء فارغ، حقائب، ساعات، وهكذا تتهيّل حميمياتها في خطاب جسدي صرف، فالبراءة في جوهرها هي شيء إيروتيكي.
إلى جانب تلك المتعلقات الشخصية يزدحم المكان بمنظومة هائلة من الأدوات التي تروي سيرة الحياة الرديفة لحياة العاشقين. كما تتمثل في ماكينة الخياطة، والآلة الكاتبة، وقصاصات الصحف، منفضة السجائر، وعدة الحلاقة، وعلب المأكولات، والمقصات، واللوحات الإعلانية، الملاحات، والملاعق، واستكانات شاهي نصف ممتلئة، وكؤوس الراكي، بالإضافة إلى وابل هائل من الصور الرمادية التي تعكس الماضي. كما يتأطر كل ذلك بشاشات عرض سينمائية صغيرة تروي مزاج البطلين وتؤبد لحظتهما.
تتكدس تلك الأشياء بتفاصيل دقيقة تسمّي حتى الماركات. وهي لا تتوالي بموجب نظام الأدلة لتسرد قصة الحب بين كمال وفوسون فقط، بل تتداعى وتنتظم لتروي قصة التحولات في تركيا. حيث يتخلل السرد حديث عن الهوية، بما هي فكرة أصيلة في السرودات والحياة التركية. فيتم التركيز على شخصية كمال المسلم العلماني، وأثر الأتاتوركية، وظهور الجمهورية، وصراع الطبقات والأفكار. والإنقلابات العسكرية، ثم بروز عصر الإسلاميين.
وفي الوقت الذي يخلد فيه المتحف قرط فوسون الذي ضاع منها في أول فصل في الرواية، يتم الإحتفاء – مثلاً – بأول مشروب غازي بطعم الفاكهة في تركيا (ميليتيم). وهكذا يؤرخ باموك مشاعر أبطال الرواية وأحاسيسهم بدءاً من العام 1975م عندما كان كمال في الثامنة عشرة من العمر، لتنتهي وتتخلد في المتحف بوفاته عام 2008م. وكان قد اشترى المنزل عام 1999م ليكون أقرب إلى عمل ومحيط معشوقته فوسون. وهو بيت عتيق يتناسب مع روح المتحف، حيث يقع في أحد أزقة حي باي أوغلو قرب تقسيم، ويعود تاريخ بنائه إلى العام 1897م.
في متحف العشق ذاك ترن ضحكات الحبيبين. تتوزع ابتساماتهما ودموعهما، حيث تفتح صورهما ومتعلقاتهما الشخصية هوة واسعة على ذاكرة المكان، فالرواية تمارس شيئاً من استقراء التاريخ الوجداني لاسطنبول من خلال عرض القيم الإستعمالية وصلتها باللحظة الزمنية. كما تتقصد ترسيب كل تلك المشاهد البانورامية في الوعي. وهي ذات الوظيفة الشاعرية التي يؤديها المتحف. وهذا هو بالتحديد ما أراد كمال التعبير عنه عند استغراقه في الحديث عن لحظات السعادة الفارهة وحلمه بتخليد ما سماه (الأوان الذهبي) الذي لا يحتويه وحبيبته فوسون وحسب، بل كل الفضاء الاسطنبولي.
كل صورة في ذلك المتحف تؤكد ما قاله كمال في الرواية عن كائنين عاشا بحسّ البراءة متخففين من (الذنوب والتهم). وشعرا على الدوام بالإنفلات (من العقاب والندم). فقد كانا خارج جاذبية الأرض، وخارج قواعد الزمن، حسب تعبيره. حيث توحي متعلقات فوسون المادية بامرأة متعلقة بمباهج الحياة، التي يقترحها النموذج الغربي آنذاك مقابل الإحساس الضاغط بالمحافظة. وعليه، فإن البراءة هنا تعني نقيضها، حتى عندما تم تجميعها وتكثيفها في وعاء متحفي. إذ لم تكن الفتاة الريفية المنبهرة بعالم المدينة إلا بمثابة أداة تحنيط لتلك اللحظة الاسطنبولية ومتحفتها في الرواية أولاً ثم في المتحف، أو هي مجرد امرأة مقموعة أُعيد تعليبها في فكرة متحفية.
رواية (متحف البراءة) قصة حب مجنونة، وهي في الوقت ذاته عرض بانورامي تفصيلي لحياة الأُسر الاسطنبولية الغنية، وكأن أورهان باموك قد حرم فوسون من السعادة من خلال بطله. فهي مجرد إمرأة جميلة مختزلة فيما تبقى من أدواتها ومتعلقاتها. ولهذا السبب حُبست في متحف لا يخلو من الاستئثار الذكوري. حيث ماتت وهي على حافة الرغبات اللامتحققة. ولم يقدم لها حبيبها كمال أكثر مما قدمه لها زوجها فريدون.
هكذا تبدو فوسون كما قدمها باموك (مثل طفل يزدرد الحلوى بشراهة، الواحدة تلو الأخرى). وهي بالتالي أقرب ما تكون إلى بهجة يتم تقديمها بالأقساط من خلال متعلقاتها. أو هي درس انثروبولوجي لتشريح المكان واللحظة والإنسان والعلاقات الإجتماعية. بمعنى أنها رؤية تركيبية بقدر ما تنحقن بالعاطفة تستوي في مختبر الفكرة. حيث كتبها، حسب تصريحه، وهو يجمع الأغراض التي وصفها في الرواية.
المتحف ليس صورة تفسيرية عن الكتاب، حسب قوله (والرواية ليست تفسيراً للمتحف إلا أنهما مرتبطان بشكل وثيق). فقد كُتبت الرواية كمعنى، بذهنية وإحساس المتحف. أما المتحف فقد تأسس كمبنى على تشييء ما تبعثر في الرواية من القيم الإستعمالية. المادية واللامادية. وهو الأمر الذي صرح به كمال عندما كان يتأمل الشقة بعد خروجه من المستشفى، فيما يشبه ارتياد مزار مقدس، حيث قرر أن يتخفف من بعض أشواقه الضاغطة وأن يتقاسمها مع الآخرين (عليّ أن أعرض مجموعتي بالكامل على الملأ).
ناقد من السعودية
[email protected]

محمد العباس