هناك بمقياس نسبي ما يعد أطول يوم في التاريخ مقابل أقصر أيامه، وقد عبّر عن هذه النسبية مؤرخون وشعراء، وعلى سبيل المثال وصف محمود درويش يوما واحدا من أيام اجتياح بيروت بأنه يعادل ألف عام، كما وصف مؤرخو القرن التاسع عشر بأنه أطول القرون مقابل أقصرها وهو القرن العشرون، الذي بدأ مع نهاية الحرب العالمية الأولى وانتهى مع الحرب الباردة.
المسألة إذن نسبية بامتياز وهذا ما يعبّر عنه الناس العاديون في حياتهم اليومية، فقد تمر السّاعة إذا كانت حميمة كما لو أنها دقيقة، لكنها تصبح أضعافها إذا كانت مُضجرة، ونتذكر في هذا السياق ما كتبه هرمان ملفيل في روايته الشهيرة «موبي ديك» عن نسبية الزمن، وما قاله الشاعر الراحل خليل حاوي:
وعرفت كيف تمط أرجلها الدقائق
كيف تجمد تستحيل إلى عصور
وفي إحدى قصص ناتالي ساروت التي حملت عنوان «انفعالات»، يلتقي عدد من النساء كل صباح يثرثرن بكلام رتيب ومتكرر بحيث يبدو الوقت أشبه بصابونة أو أي شيء آخر له رغوة يؤدي تواصل إفرازها إلى التلاشي.
لكن الظاهرة التي تجتذب الانتباه في هذا السياق الزمني هي قصص وروايات كرّسها مؤلفوها لرصد يوم واحد فقط، سواء في حياتهم أو حيوات أبطال أعمالهم، لعلّ اهمها روايتان هما «اربع وعشرون ساعة في حياة امرأة» لاستيفان زيفايغ، و»يوم في حياة إيفان» لسولجنستين، ولرواية زيفايغ حكاية شخصية، فلم أكن قد سمعت بها، وكان أشهر كتب زيفايغ بالنسبة لي كقارئ هو «بناة العالم»، إلى أن طلب مني الصديق العراقي الراحل سامي محمد ذات يوم أن أكون ضيفا على برنامج سينمائي كان يعدّه ويتناول فيه الروايات التي تتحول إلى أفلام، ثم عقد مقارنات بين الرواية المكتوبة والسيناريو الذي قد يحذف منها أو يضيف إليها، وكان الفيلم في تلك الحلقة هو «أربع وعشرون ساعة في حياة امرأة»، وبطله ليست المرأة أو أي شخص آخر في الرواية، بل هو أصابع لاعب روليت، فالمرأة قررت أن تغامر بعيدا عن طفليها وزوجها وحياتها الرّتيبة ليوم واحد فقط، فسافرت بالقطار إلى مدينة لم تزرها من قبل، ونزلت في فندق اجتذبتها فيه صالة اللاعبين، وسرعان ما فُتنت بأصابع أحدهم وهي تتحرك برشاقة بمعزل عن صاحبها وحتى عن ملامحه. فالأصابع تحتشد فيها الانفعالات كلها، ترتعش أو ترقص وتصفع أو تصافح، لهذا كان بطل رواية الفهد للإيطالي لامبيدوزا يقضي وقته في لحظات الضجر وهو يرقُص اصبعيه التانغو.
في رواية زيفايغ تعود المرأة إلى حياتها الرتيبة بعد يوم واحد استغرقته تلك المغامرة، وعلى الرغم من أن علاقتها كانت مع أصابع لاعب روليت إلا أنها ما أن وصلت منزلها حتى اغتسلت من غبار الخطيئة.
أما الرواية الثانية التي كرُسها مؤلفها ليوم واحد فقط من حياة بطله فهي رواية سولجنستين، الروائي الروسي الذي عاش خارج بلاده خلال الحرب الباردة واعتُبر من المنشقين، أمثال برودسكي وباسترناك وأحد أشهر راقصي الباليه في البولشوي.
* * *
إيفان شوخوف بطل رواية سولجنستين واقعي لكن ليس بالواقعية الفوتوغرافية التي سادت في مرحلة ما، حين كان الكولوخوز هو البطل السياسي والاجتماعي والايديولوجي، فقد قضى إيفان في معسكر الاعتقال ثلاثة آلاف وستمائة وخمسين يوما، لكنها متشابهة، تبدأ منذ الصباح بطابور طويل ممن يرتعشون بردا وتحاصرهم أسوار عالية ويسيل لعاب كلاب التعذيب على أجسادهم العليلة والنحيلة، والمؤلف نفسه عاش مثل هذه المعاناة، لهذا كان إيفان تجسيدا له، لكن على نحو روائي يتيح للخيال أن يضيف إلى الذاكرة وما يفتتح به إيفان يومه المتكرر الطويل، وهو القرع بالمطرقة على قضيب سكة الحديد لإيقاظ السّجناء عبر الزجاج ثم تستمر ساعات اليوم وكأنها حفلة تعذيب لا تتوقف، وقد كتب الكثير عن معتقلات ستالين، لكن سولجنستين اكتوى هو نفسه بجمرها مما دفعه إلى المجازفة بالفرار معرّضا سمعته وسيرته الأدبية لتشويهات لا آخر لها، لكن هذا الكاتب ليس سيء الحظ حتى النهاية، حيث نال جائزة نوبل، ثم اعتذرت له بلاده باستقبال حافل فور عودته اليها بعد أعوام المنفى، فهناك من الكتاب والشعراء والفنانين الروس من بلغت معاناتهم في تلك الحقبة حدّا دفعهم إلى الانتحار ومصائر شعراء مثل فلاديمير ماياكوفسكي وسيرجي يسنين وغيرهما كانت تراجيدية بامتياز، وهذا ما يحدث دائما عندما ترتطم الموهبة وشهوة الحرية بفولاذ الايديولوجيا، وقد كان الرقيب الستاليني الصارم او النسخة الروسية من غوبلز النازي جدانوف ماهرا ككل العسس في شمّ رائحة الحبر، لهذا فرض على شاعر روسي أن يطبع نسختين فقط من ديوانه لأنه تحدّث عن الحب وليس عن الكولوخوز، تماما كما شمّ غوبلز بأنفه النازي المدرب رائحة حبر الروائي ريمارك صاحب رواية «للحب وقت وللموت وقت» ومنع نشر فصول منها رغم انها كانت موقعة باسم مستعار.
إن أيام إيفان بالغة القسوة هي ككل التقاويم السوداء التي عاشها سجناء سلبت حريتهم الحقيقية باسم حرية مجرّدة ولا وجود لها في الواقع، ففي كل النظم التوتاليتارية يتحوّل الفرد إلى رقم أصمّ في استمارة، لأن هناك من ينوبون عنه في الحلم والتفكير، لكنه ينوب عنهم في الموت، لأنه وقود حرب، أو مجرد أداة لإشباع شهوات نرجسية.
وحين عدّ إيفان أيامه المتشابهة في معسكر الاعتقال قال إنها ثلاثة آلاف وستمائة وثلاثة وخمسين يوما، والايام الثلاثة التي اضافها هي بسبب السنوات الكبيسة، هنا تفوح رائحة السخرية المريرة والسوداء، التي يلوذ بها أحيانا أمثال إيفان، لأنها شكل من أشكال الاتّقاء والمقاومة، وهذا بالضبط ما قاله جورج لوكاتش عن السخرية بوصفها دفاعا باسلا في لحظات عصيبة!
كاتب اردني
خيري منصور