إسلمو ولد سيد احمد:
المصطلحات مفاتيح العلوم-كما يقال-ومِن ثَمَّ فهي مفاتيح الفهْمِ والمعرفةِ. وانطلاقًا من هذا التصور، فقد ارتأيتُ إبداء رأيي في هذا المصطلح/ أو التعبير الوارد في العُنوان. لقد أصبح هذا التعبير- في الآونة الأخيرة- على رأس كل لسان، وتناولته وسائل الإعلام المختلِفة، وأشاد به بعض المحللين، وتحدث عنه بعض المسؤولين في العديد من المناسبات، وكأنه عصا سحرية وتِرْيَاقٌ شَافٍ لكل العِلَل والأمراض الاجتماعية. بدأ هذا "التمييز الإيجابيّ"- على ما أتذكر-بإعطاء حِصّة نِسْبية (quota) للنساء في بعض الوظائف، ثم جاء الحديث عن ضرورة "تمييز إيجابيّ" في التوظيف، مراعاة لظروف شرائح اجتماعية أخرى، كشريحة العرَب السمر"الحراطين"، ثُمّ فيما بعدُ، العرَب المعروفين ب"لمعلمين". وتوالى المسلسل، لندخل في حلقة مفرغة، وفي وضع يُنذِر بتقسيم مجتمعنا إلى عشرات الشرائح الاجتماعية، لدرجة أن أحد الموريتانيين قال، وهو يتحدث-على الهواء-في فضائية موريتانية، إنه خِلَاسِي(métis) ويطلب "تمييزا إيجابيا" لشريحته-في إشارة إلى أنّ أمه من لون معيَّن وأباه من لون آخر- وفهمتُ من طريقة عرضه للقضية-وأشاطره الرأي في ذلك- أنه يتهكَّم ويسخر من هؤلاء الذين يرفعون شعارات من النوع المذكورآنفا، ظنا منهم أنهم لن يحصلوا على حقوقهم، التي يكفلها لهم الدستور، إلّا من خلال رفع شعار الدفاع عن شريحة معينة يزعُمون أنها مظلومة ومهمشة ومحتقرة، على المستوى الرسميّ والاجتماعيّ. مع أنّ في هذا التصرف الغريب نوعًا من محاولة تفكيك المجتمع وزعزعة التعايش بين مكوناته وإيهام العالم بأن موريتانيا دولة ظلم وعنصرية واسترقاق، تعمل على ترسيخ الفوارق الاجتماعية وامتهان الكرامة الإنسانيةلمواطنيها. ولا أدري لمصلحة مَن يعمل هؤلاء !. ومن الغريب-على سبيل المثال- أنّ بعض الكُتاب والمدونين ينشرون في وسائل الإعلام وعلى صفحات التواصل الاجتماعيّ أن العالِم الفلانيّ أو المهندس أوالفقيه أو الشاعر أو الأديب، عُيّن في الوظيفة الفلانية لأنه"امعلم"،وذلك من باب "التمييز الإيجابيّ". وبعضهم يتساءلون، لما ذا لم يكن عمدة المدينة الفلانية "حرطانيا"، مع أنّ الأمر هنا يجب أن يترك لاختيار الناخب. وآخرون يطالبون بإطلاق اسم شارع معين على "امعلم"، تكريما له ، والمنطق يقتضي أن يكرم على أسس أخرى معلومة لدى القاصي والداني. وبالرجوع إلى موضوع تعيين "امعلمين" في وظائف معينة-كنوع من "التمييز الإيجابي"- يلاحظ أننا قبل أن نسمع هذا الكلام غير المعقول، أو نقرأ هذه المنشورات- التي لا داعي لها- لم نكن نعرف أن هذه الشخصيات تنتمي إلى شريحة"لمعلمين". ولا شك في أنّ هذا الانتماء لا ينقص من قدر هؤلاء، لكنه لا يغير من الأمر شيئا. إنهم مواطنون موريتانيون وكفى. ثم إننا يجب ان نحترم الشخص ونوظفه ونتعامل معه، على أساس تقواه وورعه وكفاءتهوذكائه وحسن سيرته وسلوكه وأخلاقه ...، لا على أساس أنه"ولد خيمة اكبيرة"- كما يقول بعضهم- أو أنه"امعلم" أو "حرطاني"، مع تحفظي على هذه التصنيفات والتسميات، والتي لم أذكرها إلا بغية توضيح وجهة نظري فيما يطرح حولها من آراء وأفكار.
وإنه لَممّا يحز في النفس حقيقة، أن نجد-في الآونة الأخيرة- هجومًا كاسِحًاعلى "البظان"، وعلى من يصفهم هؤلاءب"أولاد لخيام لكبارات" الذين يحتكرون كل شيء ويهمشون "لحراطين" و"لمعلمين"!. ولا ينقضي عجبي من هذه المحاولات المتكررة واليائسة للتفريق بين العرب الموريتانيين(بأبيضهم وأسمرهم وأسودهم) من نوع: هذا "بظاني" وهذا"حرطاني" وهذا "امعلم"...وكأننا تحولنا من معالجة القضايا الوطنية الجادة، ومن ضمنها القضايا المتعلقة بالوحدة الوطنية، وتوطيد اللحمة الاجتماعية، وترسيخ الهُوية واستعمال اللغة العربية، وحل مشكلات التعليم ، ومحو الأمية، والقضاء على البطالة، وتحقيق التنمية الشاملة...، إلى قضايا سطحية مصطنعة لا طائل من ورائها، ولا تقدم ولا تؤخر.
وحتى لا أطيل على القارئ الكريم، ونحن في عهد السرعة، أقول إنّ هذا "التمييز الإيجابيّ" ليس إيجابيا بالمرة، بل إنه سلبيّ بكل المقاييس. فبالنسبة إلى الوظائف الانتخابية، من الأفضل أن نجعل المرأة تترشح لشغل الوظيفة إلى جانب أخيها الرجل-دون وضع شروط معينة وفي الظروف نفسِها-ونترك للناخب أن ينتخبها أو ينتخب الرجل. وهكذا تتحقق المساواة الحقيقية-بين الجنسين- على أساس من العدل والإنصاف، من خلال وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب. وفي ذلك فخر للمرأة نفسِها، لأنها انتزعت حقها بقدرتها على التنافس الشريف، وليس عن طريق التكرم عليها بمنحها هذا الحق (وكأنها معذورة/ أو من أصحاب ذوي الاحتياجات الخاصة).وفيما يخص الوظائف التعيينية، يجب أن تُعيَّن المرأة على أساس كفاءتها، لا على أساس جنسها. وأشير هنا إلى أن المرأة-وهي الأمُّ والزوجة والأخت والبنت...- يجب تكريمها ومراعاة ظروفها الخاصة، ومن ذلك عدم تعيينها في وظيفة لا تناسبها، لمجرد تقليد الآخرين(الغرب بصفة خاصة).ودون الدخول في المزيد من التفاصيل، فإنني أرى أنّ التمييز الإيجابيّ الحقيقيّ يجب أن يقتصر-في الوقت الراهن- على مجال التعليم، بحيث نضع خُطة مدروسة تمكن أبناء الفئات المشار إلى بعضها"لحراطين"-بصفة خاصة- من دخول المدرسة والتدرج في مستويات التعليم حتى يلتحقوا- بالسرعة الممكنة- بركب المتعلمين من الفئات التي حظيت بنصيب أوفر من التعلم- لظروف لا يتسع المقام للبسط فيها- ومن ثَمّ تأهيلهم للتوظيف والمشاركة الفاعلة في تنمية البلد، بصرف النظر عن الشريحة التي ينتمون إليها. وبذلك نصبح أمام مواطن-ذكَر أو أنثى- قادر على أن ينافس أقرانَه في مجال الترشح للوظائف وتقلُّد المَهَمَّة التي تناسبه.
وسيكون المعيار الوحيد-عندئذ-الكفاءة، ولا شيء غير الكفاءة (بمفهومها الواسع). ولن نطلب من الدولة- في هذه الحالة- سوى التزام الحياد والموضوعية والعدالة في المعاملة والعمل على ضمان تكافؤ الفُرَص. وبعبارة أخرى، فإنّ معالجة معظم القضايا والمشكلات المطروحة على الدولة وعلى المجتمع، يجب أن تبدأ بإصلاح التعليم، من أجل القضاء على الجهل الذي هو البوابة الرئيسة للفقر والجوع والمرض والتخلف. وذلك بدلا من الاستمرار في هذه الفوضى الشرائحية "اللاخلّاقة"، و"الطليِ على الزغب" من خلال هذا "التمييز اللاإيجابيّ".والأمل معقود على نتائج الإجراءات التي ستتخذها الدولة، ابتداءً من هذه السنة(2015م) التي أعلن السيد/ رئيس الجُمهورية أنها ستكون سنة التعليم.
وفي إصلاح التعليم، وتوطيد الوحدة الوطنية، وتحقيق التنمية الشاملة، وتوفير الأمن والرخاء والاستقرار للمواطنين كافة، فليتنافس المتنافسون.
سلمو ولد سيدي أحمد
كاتب وخبير لغوي وباحث في مجال الدراسات المعجمية والمصطلحية