الحب في زمن «واتساب» و… أخواتها

رسالة الخطأ

Deprecated function: preg_match(): Passing null to parameter #2 ($subject) of type string is deprecated in rename_admin_paths_url_outbound_alter() (line 82 of /home/amicinf1/public_html/sites/all/modules/rename_admin_paths/rename_admin_paths.module).
خميس, 2015-01-29 00:00

متى كانت آخر مرة ملأتَ بها قلم الحبر بحبر تفوح رائحته ويترك على أصابعك آثاراً سوداء أو بنية، وسحبتَ ورقة من دفتر وكتبت عليها رسالة حب؟
إن كنت من شباب هذه الأيام فأكاد أجزم أنك تظن أنني آتية من مجرة أخرى، لأنني أحدثك عن وسائل قد تبدو لك «بدائية» للتواصل مع حبيب أو حبيبة.
وإن كنت من جيل عرف متعة القلم والحبر والورق والمغلف (الظرف) ولحظة إغلاقه بالصمغ ولحظة فتحه، فأنت إما تحنّ إلى تلك الأيام لكنك كسول وليس لديك وقت – طبعاً – وإما تظن أنني «دقة قديمة» أبحث عن مضيعة للوقت. أما إن كنت ممن يمارسون حتى اليوم هذا النوع من التواصل مع من تحب، فأنت رومانسي غير عادي، يعرف طعم الحب ببطء، وحرقة الصبر، ولوعة الأمل، ولهفة الانتظار.
كم كنت أود أن أعرف كم من قراء سطوري هذه يقع ضمن خانة الرومانسيين في زمن أصبحت الرومانسية فيه لدى البعض جملة كتبها أحدهم (لا يهم من) تبحث عنها في أقل من ثلاثين ثانية في موقع إلكتروني ما وتنسخها، من دون حتى أن تتمعن فيها، لتلصقها على هاتفك، فتصل الحبيب خلال ثانية أو ثانيتين، وتنتظر الجواب خلال خمس ثوان، وإلا فقد تفقد صبرك.
هو زمن أصبحت فيه إحدى وسائل التعبير عن غضبك من الحبيب هي إلغاء متابعته على تويتر، أو إخراجه من دائرة الأصدقاء على فيسبوك، أو حجبه على واتساب، أو حتى تغيير طبيعة العلاقة التي تختار أن تضعها على فيسبوك، كي تصدمه وتحرجه أمام آل فيسبوك أجمعين. أين أيام الدموع على قارعة الطريق أو في مقهى بسيط، أو حتى عند موقف الحافلة أو القطار؟
هو زمن أصبحت ترى فيه الناس تضحك للشاشات وتخجل أمام الشاشات، وتبكي أمام الشاشات، وكأن الحبيب هو ذلك الهاتف أو ذلك الحاسوب.
هو زمن أصبح الإنسان لا يشعر فيه أحياناً بالحاجة للخروج أساساً للقاء الحبيب، فالحبيب موجود صوتاً وصورة (جامدة أو متحركة) في هاتفه النقال «الذكي» الذي يمكن أن يعمل أيضاً كأداة تجسس على كل تحركاته. يخبرك أي ساعة دخل فيسبوك ويخبرك متى كان في آخر اتصال على واتساب، ويمكن أن ينبهك إلى كل ما يكتب على تويتر بشكل أوتوماتيكي، ويمكن أن تراقب تحركاته على أنستغرام وسكايب وكيك وفيسبوك، وحتى بإمكانك أن ترى أي صور تعجبه أو كلام يعلق عليه أو تفاعل له أو تفاعل الآخرين معه. وإن لم يرد عليك أو لم يسلم في كل دخول وخروج، يا ويله. هو زمن أصبحت بعض علاقات الحب فيه تبدأ وتنتهي بسرعة الانترنت، فيلتقيان على تويتر، ثم ينتقلان إلى فيسبوك، ومنه إلى واتساب، وربما تتطور العلاقة لتصل إلى سكايب، وقبل أن يلتقيا وجهاً لوجه يمكن أن تنتهي العلاقة أساساً، وقد يكون سبب انتهائها شجارات تتعلق بتكنولوجيا التواصل نفسها.
طبعاً هناك حالات مغايرة لأشخاص يلتقون عبر الإنترنت وينتقلون إلى الواقع بشكل ينتهي بعلاقة ناجحة تتكلل حتى بالزواج في بعض الحالات.
في دراسة نشرتها مجلة علم النفس الافتراضي والسلوك CyberPsychology and Behaviour Journal كانت حالة القلق الناجمة عن مراقبة الحبيب عبر واتساب أو عدم رده عندما يكون متصلاً أو عدم قرائته للرسائل عندما يكون متصلاً، أو الغيرة من تفاعله مع آخرين على واتساب المسبب الرئيسي في إنهاء 28 مليون علاقة حب في العالم. تخيلوا ! 
كم كانت جميلة تلك الأيام التي كان فيها غموض. كنا نتواعد فيها من أجل اتصال هاتفي في ساعة معينة، إلى المنزل، ربما مرة في اليوم، أو حتى مرة واحدة في الأسبوع. نعم أقصد الهاتف الأرضي. فتمر الأيام والساعات كلها في انتظار ذلك الموعد الذي لن يأتي سوى بصوت الحبيب وبكلمتين جميلتين تُغنيان عن الدنيا وما فيها وتبقيان معك حتى الموعد المقبل.
وكم كان القلب يدق كل يوم وهو ينتظر، ويشعر بأنه سيتوقف من شدة الحماسة عندما تفتح اليد صندوق البريد بحثاً عن رسالة من حبيب، فيحزن إن لم يجدها، ويقضي النهار بطوله منتظراً طلوع النهار الآتي من أجل فرصة جديدة، ثم حين تصل الرسالة تفتحها اليدان وكأنها كنز من كنوز الدنيا، ثم ترد عليها بالأنامل بعد طول تفكير، وتترك على صمغها شيئاً من لعاب عاشق، ويضمها الصدر قبل أن تضع اليد عليها طابعاً بريدياً حقيقياً يمكن اختياره جميلاً، وتخط الاسم والعنوان فتظهر على الأحرف اللهفة، وترميها للزمان وللقدر كي يوصلها المكان المنشود. وينتظر القلب، ببطء.
الآن ترانا أحياناً نتهرب من حبيب يظهر في كل مكان على كل الشاشات في كل الأوقات. رسائله تتطاردنا من شاشة إلى شاشة: هاتف التفاحة المقضومة (أيفون)، وهاتف التوت الأسود (بلاكبيري)، ولوح التفاحة المقضومة (أيباد)، والحاسوب، وهواتف المجرة (غالاكسي) وغيرها. ريثما يأتي منه اتصال هاتفي يكون عندنا إشباع منه. وعم سيحدثنا ما دمنا نتشارك معه في كل شيء يقوم به عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ونراه بالفيديو كل حين وآخر؟ وريثما يحين موعد اللقاء وجهاً لوجه نجد أنفسنا نتحدث عن تلك الأشياء نفسها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وقد يلتصق كل منا بهاتفه الذكي.
والأفظع هو أن تلك الأشياء الذكية تجعل الحبيب يظهر في الصور حتى أحلى من الطبيعة لأن الكاميرا فائقة، ومع وجود التنافس الحاد يجب أن نحسن من جودة التصوير، ثم نعدل الألوان والإضاءة ونضيف المؤثرات قبل إرسال الصورة. فعندما نراه يبدو لنا شاحباً، أقل وسامة مما هو على شاشاتنا.
وقد نجد الكثيرين ينتقمون من الحبيب عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فيكتبون كلاماً موجهاً أو مقصوداً له على صفحاتهم كي يقرأه هو، أو يكيدونه بتصرفات معينة على صفحاتهم.
تلك الهواتف الذكية هي وسيلة تواصل رائعة، في الحب كما في أشياء أخرى، وفي أحيان كثيرة إن استخدمت بشكل حكيم ومعتدل فيمكن أن تقرب المسافات وتسهل العلاقات وتحافظ على علاقات حب ما كان لها أن تستمر لولاها. لذا لن أقول لكم أن ترموا تلك الأجهزة، لكن تذوقوا الحب البطيء، مرة، وإن أعجبكم جربوا المزاوجة بين البطيء والسريع، الغامض والمكشوف، الهاتف والورق .. التصقوا بعيني الحبيب بدلاً من البلاستيك الذكي والمعدن الذكي .. وتعرفوا على لهفة اللقاء، اللقاء الحقيقي .. وجربوا قلم الحبر عله يترك على أصابعكم بصمات حب جميلة وتنتهي تلك الورقة في مكان لا يصل إليه أي «هاكر» ولا يمسحه أي برنامج ولا يلغيه أي تطبيق. ولن أتجاوز حدودي وأطلب منكم أن تضعوها في مغلف تختارونه بعناية في مكتبة حقيقية وليست إلكترونية – معاذ الله – أو أن ترسلوها عبر البريد «البطيء» وتنتظروا أن يصلكم الرد.. بل سأكتفي بفكرة إعطاء الحبيب تلك الورقة باليد، ببطء، أو تركها له، بحيث تحتفظون بالكلام من لحظة كتابته للحظة وصولها إليه، حتى لو ناداكم واتساب يحاول إغراءكم كي تكتبوا ما لديكم بأقصى سرعة.
الأهم في الموضوع هو ألا ورقة ستشبه تلك الورقة الفريدة في أي قصة حب أخرى في أي مكان في العالم أو في التاريخ، ولا حتى في أي من المواقع والتطبيقات والبرامج الموجودة على أشيائكم فائقة السرعة والذكاء.
الحب عندما يتربى حصرياً في أكناف واتساب وسكايب وتويتر وفيسبوك والهواتف والحواسيب والألواح هو قطار سريع لا يتوقف بين المدن، لا يعرف عبق الريف ولا سكونه، ولا يقطف الثمر من الشجر ولا الورد من الحديقة، ولا ينتظر القمر ولا يشعر بالمطر، بل يصل وجهته الأخيرة وكأنها المحطة الوحيدة، مع أن ثمة محطات كثيرة صغيرة قد لا تكون أجمل بالضرورة من المحطة المنشودة، لكنها ستجعل الوصول إليها بحد ذاته رحلة جميلة وستملأ الحقائب السريعة بأشياء بطيئة تبقيك مدة أطول بمتعة أكبر في الوجهة الأخيرة

إعلامية وكاتبة فلسطينية

ديمة حسام الخطيب