تغريد البلابل وشدو الأدباء… الشعراء مثل الطيور إذا لم يغنوا ماتوا خنقا

رسالة الخطأ

Deprecated function: preg_match(): Passing null to parameter #2 ($subject) of type string is deprecated in rename_admin_paths_url_outbound_alter() (line 82 of /home/amicinf1/public_html/sites/all/modules/rename_admin_paths/rename_admin_paths.module).
جمعة, 2015-01-30 21:14

يقول الشاعر المكسيكي ألبرتو بلانكو «إن الشعراء مثل الطيور إذا لم يغنوا ماتوا خنقا..» ولا عجب إذا علمنا أن هذا الشاعر هو صاحب ديوان شعري فريد في بابه في أدب أمريكا اللاتينية، وهو تحت عنوان «كتاب الطير»، الذي تدور كل قصائده حول هذا الموضوع، أي الغناء للطيور، والشدو للعصافير، والبلابل من أي نوعٍ كانت، وعنوان كتابه يدل على مضمونه، أو ينبئ عن محتواه. يعتبر الشاعر هذه المخلوقات الصغيرة جزءا لا يتجزأ من الطبيعة ومباهجها وجمالها وروعتها وفتنتها وبهائها، إن لم تكن أجمل لوحةٍ من لوحاتها، وأهم مظهر من مظاهرها، خاصة إذا علمنا أن هناك قولة شهيرة سائرة على كل الألسن في بلاده المكسيك تقول «إن الله في مختلف مناطق العالم خلق الإنسان أولا، ثم خلق له الطبيعة، وفى المكسيك خلق الله الطبيعة أولا، ثم خلق لها الإنسان».

كناري مي زيادة

الطيورالصغيرة الوديعة، والعصافيرالرقيقة الناعمة التي تحلق في الفضاءات الفسيحة بين الأشجار والأغصان لا تؤذي أحدا، إنها بشكلها الرهيف، وإهابها الشفيف، وأجسامها الهشة والنحيلة، كانت باستمرار محط اهتمام الكتاب، والشعراء، خاصة الغنائيين منهم، إن مناجاة مي زيادة لكنارها السجين ما زال يثير فينا كثيرا من اللوعة والشجون، والأسى والحنين، كيف يمكن أن يستطاب له الغناء، والزقزقة بدون حرية داخل قضبان حديدية محكمة ومنيع..؟ تحرم الطائر أولى النعم التي خصته بها الطبيعة، وهي نعمة الحرية والهواء الطلق والفضاء الشاسع المفتوح، حتى مات، إنها تقول عن ذلك في كلمات رقيقةٍ، ناعمةٍ موفيةٍ وبليغة: 
طائر صغير، نسجت أشعة الشمس ذهب جناحيه، وانحنى الليل علية فترك من سواده قبلة في عينيه، ثم سطت عليه يد الإنسان فضيقت دائرة فضائه، وسجنته في قفصٍ، كان بيته في حياته، ونعشه في مماته !طائر صغير، أحببته شهورا طوالا، غرد لكآبتي فأطربها، وناجى وحشتي فآنسها، جاور روحي فآخاها. غنى لقلبي فأرقصه، ونادم وحدتي فملأها ألحانا !في الصباح كنت أفتح عيني فيستقبلني بالغناء، وتسيل موسيقى ألحانه على قلبي، فتذيبه وتسكره في آن واحد، وكنت أجلس للدرس، والتحبير، فتشمئز نفسي أحيانا من عبوس الكتب، ويثقل قلمي في يدي، فيأخذ طائري في الزقزقة والتغريد، فتبتسم الأفكار على صفحات الكتب، وتنجلي الغيوم عن صفحات نفسي. والآن أنظر إلى القفص، لقد صمت الطائر، وتجمد الشعاع المحيي، فلا ترى في القفص إلا قليلا من الشمس المائتة. مات الصغير المغرد، مات صغير حشاشتي، مات قبل غروب الشمس، وقبل انقضاء الربيع.

داريو وأرض الشموس

هذا المخلوق الصغير كان من المواضيع التي تغنى بها الشعراء في كل مكان وزمان. وفي أدب أمريكا اللاتينية نجد الشاعر المجدد روبين داريو الذي زار مدينة طنجة (شمال المغرب) عام 1902، وعلى غرار العديد من الأدباء والشعراء العالميين من مختلف الجنسيات الذين اختاروا الإقامة في هذه المدينة وما أكثرهم، تغنى شاعر نيكاراغوا الكبير هو الآخر بجمال هذه الحاضرة الجميلة، وبطبيعتها الخلابة، وبطيورها وعصافيرها، وبلابلها وحمامها الزاجل، ونجد بين دفتي ديوانه الذي يحمل عنوان «أرض الشموس» الكثير من الأشعار الرقيقة، والخواطر الرشيقة، والذكريات الحميمية عن هذه المواضيع، وسواها خلال رحلته هذه «إلى أرض الأجداد». لقد تساءل روبين داريو في العديد من المناسبات:» هل يجري في جسمي دمٌ افريقي، أو هندي، أو عربي..؟ ويجيب عن اقتناع: «هذا أمرٌ ممكن». ويؤكد الأديب والكاتب الإسباني الكبير فرانسيسكو فيا إسبيسا: «إنه حتى وإن ولد في نيكاراغوا، فإنه من أصل عربي أندلسي، فقد ولد والده، وجميع أفراد عائلته في قلب منطقة البشرات إقليم ألمرية بالأندلس»، وكتب روبين داريو ذات يوم أنه عندما كان يهم بالدخول إلى مسجد قرطبة الأعظم، انتابه شعورٌ غريب فقال: «عند دخولي إلى هذه المعلمة الإسلامية العظيمة أحسست برغبةٍ عارمةٍ في استبدال حذائي ببلغةٍ، ولسان حالي يهمس أن الله وحده هو الأكبر».

كتاب الطير

ومن أجمل وأطرف الكتب التي راقتني، وسيطرت على مجامعي في هذا الموضوع مؤلف تحت عنوان «كتاب الطير» وهو ديوان شعري للشاعر المكسيكي ألبرتو بلانكو، الذي يعتبر كتابه تكريما لتلك المخلوقات الجميلة، الناعمة الضعيفة الواهية. إن قراءة هذا الديوان تذكرنا بلحظات بزوغ الفجر، وغروب الشمس، حيث تكثر زقزقة العصافير، وتغريد البلابل ساعة الغسق والشفق.
موضوع هذا الكتاب لا يمكن أن يكون سوى البحث عن أعمق وأرق وأبعد مواطن المحبة الباقية الكامنة في الإنسان. إن شدو الشاعر في رده على غناء الطيور ضمن مقطوعات شعرية صغيرة رقيقة حلوة يثير في قارئها عواطفه الدفينة، ويحرك فيه مشاعره الخفية، وحواسه الناعسة، إنها مقطوعات تنم عن براءة الأطفال، ومثلما هو عليه الشأن بالنسبة للشاعر، حيث يتعلم من أساتذته، معلميه ومريديه، (البحتري تتلمذ على يدي معلمه أبي تمام، ووضع له وصيته الشهيرة في قرض الشعر) فالعندليب الصغير يتعلم الغناء هو الآخر مع الطيور الأكبر منه من أشكاله، محاكيا ومقلدا لأقرانه، ولكنه في ما بعد سرعان ما يبدأ في تغريد ألحان جديدة، مرتجلا ومجتهدا، صادحا ومبدعا، يقول ألبرتو بلانكو:
تحط بأجسامها النحيلة
على الغصون المائسة 
والفروع الجافة في الخريف
تماما عندما تتأهب الشمس للغروب
ويغيب قرصها المذهب عن الأنظار
وفجأة تنطلق حناجرها الصغيرة
بنغمٍ واحد، بصوتٍ واحد
يستحيل معرفة ما كان الأجمل
هل صوتها المسجوع 
أم انسجام موسيقاها
أم تلك الأشجار الباسقة
المعلقة في جنح الليل.
إن عصفور الدوري لا زال يؤنس وحدتنا، ويناغي وحشتنا، ويبدد عزلتنا في شوارع، وساحات، وحدائق المدن الكبرى، ونحن نحتسي فنجان قهوة، أو نرتشف كأس شاي، يقفز في خفة ورشاقةٍ من غصن إلى غصن، ومن رحبة إلى رحبة، ومن رصيف إلى آخر، وهو يلتقط بقايا فتات الخبز أو حبات الذرة، أو القمح المنتشرة هنا وهناك، لا أحد يلتفت إليه، ولا أحد يرعاه، مثلما كان عليه الشأن في الماضي البعيد والقريب، إلا أنه في خضم هذا الجفاء لابد أن تكون هناك عين عاشقٍ، أو قلم شاعرٍ، أو ريشة فنانٍ تخلد لنا تلك اللحظة، وتسجل لنا هلع وقلق وخفة تلك المخلوقات الناعمة التي لا تؤذي أحدا، ولكن بعض الناس ما انفكوا يؤذونها بشتى السبل، ففي القرى والمداشر، لا يتورع بعض الفلاحين والمزارعين عن استعمال مختلف الوسائل للقضاء عليها، بما فيه دواء «المونوكروتوفوس» وهو دواء زراعي محظور، فبمجرد تنشقها لهذا الدواء السام، تراها تتساقط بسرعة بالمئات تحت المزارع والحقول والدوالي والكروم والأشجار، وهي في المدن والحواضر معرضة باستمرار كذلك للأذى والزجر من طرف الحمقى والصعاليك، والمتشردين والمتسكعين والمارة والأطفال، الصغار منهم والكبار على حد سواء.
إن أغاني هذا الشاعر تحرك فينا لواعج قديمة لا حصر لها، لا تزال عالقة في ذاكرتنا، وبين ثنايا أنفسنا، وأعمق أعماقنا منذ عهود الطفولة البعيدة في الزمان والمكان، منذ طفولة البشرية، أو طفولة الإنسان، حيث كان هناك اهتمام أكبر بأمنا الأولى الأرض، وجواهرها الطبيعية النفيسة، وفي طليعتها الطيور، نخالها ذكريات قد زالت وتلاشت وامحت، من ذاكرتنا مع مرور الأيام، وتعاقب الليالي وتقادم الأعمار، إلا أنها سرعان ما تعود وتطفو من جديد على سطح شعورنا، وتتدفق من قلوبنا وافئدتنا ووجداننا كشلال منهمر رقراق، عند قراءتنا لهذا الديوان:
إنه يجد داخل القفص 
الأيام قصيرة جدا
شبيهة بالفواكه المنقورة
أو بقايا الرماد
إن الذي فاز بقصب السبق في الغناء
هو طائر الكناري
يقول الشاعر ألبرتو بلانكو إن إبداع الطيور ما زال يجذب العديد من الكتاب والشعراء والفنانين، وما فتئت زقزقة العصافير تأخذ بمجامعهم، ذلك أن أغاني هذه المخلوقات الصغيرة هي ليست من نسج الخيال، بل إنها مستوحاة من الطبيعة، ومن أوتارها الرائعة. فالطيور تلقننا كيف نصغي ونستمع ونستمتع بالموسيقى، فبالإضافة إلى إنها تربي أذواقنا، وتنعش أرواحنا، وتهذب أحاسيسنا، فإنها في الوقت ذاته تعلمنا مراقبة مرور الزمن وانسياب الأيام وانقضائها، في خفتها وقفزاتها ونقرها وقلقها وهلعها وترقبها وبحثها المتواصل عن القوت اليومي، والماء والكلأ، وإن قصر أعمارها وضآلة أجسامها، وهشاشة بنيتها، كل ذلك يرمز بشكل أو بآخر للإنسان وضعفه وعمره القصير في هذا الكون الواسع الفسيح.

الحرية في أبهى صورها

ويقول ألبرتو بلانكو إن الطيور يمكنها أن تطير. وقد احتلت في الآداب العالمية، واالأساطير الغابرة، والحضارات القديمة مكانة أثيرة، ومنزلة رفيعة، وكانت طوال العصور الوسطى أيقونة البذخ والرفاهية، وشعارا للترف والرهف والنبالة والحذاقة، والرقة والعذوبة والنعومة. وتمثل الطيورالحرية في أجلى وأعلى صورها، وأجمل وأبهى مظاهرها، ذلك أن معظم الناس في تلك العهود النائية لم يكونوا يتمتعون بهذه الحرية، إذ لم يكن في مقدور الكثيرين منهم التحرك، والتنقل حيثما شاؤوا، بمعنى أنهم لم يكونوا أحرارا طليقين بالمعنى الصحيح للكلمة، لم يكونوا بعيدين عن ثقل القيود، وجلاجل الأصفاد، وبالتالي فقد شكلت الطيور نوعا من أنواع التطلع نحو التحرر والانعتاق والانفتاح، والرفعة، فضلا عن معاني التطلع والعلو والتحليق والطموح.
إن الشاعر يلفت نظرنا في أشعاره من جهةٍ أخرى إلى الوسط البيئي والجغرافي، وما تعاني منه هذه المخلوقات الضعيفة بسبب الأضرارالفادحة التي يلحقها الإنسان بالبيئة، والطبيعة والتدهورالذي تعرفه المحميات الطبيعية، وآفات التلوث التي أصبحت تلحق بالوسط الذي يحيط بنا أضرارا جسيمة، ونقصا ذريعا متزايدا في المناطق الخضراء في العالم، وتضاؤل الغابات، وتلاشي الأدغال، والشح الرهيب الذي أصبحت تعرفه منابع المياه وينابيعها وحالات التصحر والجفاف، التي تجتاح العديد من مناطق العالم، إن الشاعر يفجر في قصائده مشاعر الأسى واللوعة والحسرة والحنق والضنك، ومع ذلك يظل الأمل عنده هو المشعل الذي ينير به طريقه وسط هذه المتاهات الحالكة، وبالتالي يأبى إلا أن يزداد إمعانا في الشدو والغناء، لمعشوقاته الصغيرات، إنه يقول ضمن أبيات تطفح بالرقة والعذوبة، وبغير قليل من التأمل وإعمال النظر فيها وفي حياتها ومعاناتها، وظروفها ومحيطها ومراتعها:
القليل مما تبقى من طائر البطريق
يعيش الحياة بنوع من الفلسفة
إنه يضع بيضه وسط اللامنتهي
حيث يركن إلى التفريخ
بصبرٍ وأناة
عاجلا أم آجلا سوف يطل الصغير
وتنزل الملائكة من علٍ
وتغسل المولود الجديد
وتحضنه بين يديها
وتهزه في مهده
وتناغيه برقةٍ وسكون
وبجناحيها الأثيريين
تمسح دموعه المجمدة
ثم ينطلق في تلقائية وخيلاء
إلى الفضاء الناصع البياض
أو سابحا في الأعماق
نحو الشطآن البعيدة
مخترقا لجج اليم الصاخب 
المزبٍد الفسيح
نحو اللامنتهي .
يشيرالناقد المكسيكي لويس كونتيرو الى أن قراءة هذا الكتاب يوقظ ضمائرنا، ويحرك لواعجنا، ويذكرنا بجانب منسي من جوانب جمالية الطبيعة الخلابة، وروعة أصواتها السحرية، وتنويعات التغريد التلقائية الفطرية التي لا تستعمل أي أدواتٍ غنائيةٍ سوى الحنجرة الذهبية التي وهبها وحباها الله لهذه المخلوقات الزاهية الألوان والفائقة الافتتان، حيث ما فتئت أصواتها الرخيمة، على الرغم من كل شيء، تنتهي إلينا في نشوةٍ، وانشراحٍ، حلوة عذبة صادحة في الساعاتٍ الأولى والأخيرة من النهار.

كاتب مغربي ـ إسبانيا

محمد محمد خطابي