انفتاح السوق الجزائرية على الشركات الأجنبية خلق ديناميكية جديدة في المشهد اليومي الجزائري، بسلوكيات عمال أجانب وثقافات وصور، أحيانا تجلب الفرجة والمساءلة السطحية بعيدا عن السؤال الحقيقي في مقاربته موضوع «الغريب»، بما يحمله من أسرار ورغبة في اكتشافه/رفضه لأسباب تاريخية، رغم أن المدن الجزائرية لم تخل يوما من الغرباء، فالغريب دائما في الثقافة الشعبية الجزائرية يشوبه الغموض والتخوف منه لما ارتبط بكل الشرور التي نتوارثها أبا عن جد.
هذا الواقع الجديد الذي أفرزه الانفتاح النسبي على اقتصاد البزار والريع، وما حمله أيضا من فساد وفوضى، حتما هذا الوضع غير السوي ينفتح على أسئلة جريئة مفصلية تطرحها النصوص الجزائرية، الرواية تحديدا، في مساءلة الغريب بأسئلة جديدة ومتن جديد.ج
اءت رواية «الملكة» للروائي أمين الزاوي الأخيرة في طرح كثير من الأسئلة المتشنجة والعميقة، عن المستقبل الغامض للجزائر التي قد يحكمها صيني في نهاية القرن الحالي؟ في ظل هجرة الجزائريين إلى جنتهم الجديدة كندا، ومجيء الصينيين إلى جنتهم الجزائر.
فالرواية مغامرة جديدة للروائي الجزائري بعد روايات عديدة متميزة، أغلبها ترجم إلى عدة لغات عالمية، والبعض الآخر اقتبس للسينما لما تميزت به من جرأة في طرح القضايا المسكوت عنها.
ترصد رواية» الملكة» يوميات الجزائر العاصمة في الألفية الجديدة، التي تتكئ على الريع البترولي. الأصح تعري هذا الواقع المتشرذم، بمشاهده السريالية والدموية والمضحكة في آن.
صدرت الرواية عن منشورات ضفاف ومنشوات الاختلاف 231 ص من الحجم المتوسط، في طبعة أنيقة، نقرأ في عتبتها الخارجية العنوان الرئيس باللون الأحمر «الملكة»، وصورة امرأة غير واضحة المعالم، وهي تغطي رأسها بمظلة بيضاء ترتدي ثوبا أحمر. وفي الصفحة الثالثة نقرأ العنوان كاملا «الملكة الفاتنة تقبل التنين على فمه» عنوان واعد ومغر ليدخلك في عوالم الجنس سرعان ما يضعف أمام عوالم أخرى تبدو أنها تقارب العاطفة، فنكتشف مع الصفحات أن تلك القبلة ولو فيها جرأة من الملكة فهي واجهة فقط للدخول في عالم شبه سريالي.
الرواية موزعة على اثنين وعشرين فصلا، متفاوتة في الحجم، يتناوب شخصيتي الرواية (سكورا ويو تزو صن/يونس الشنيوي) على سرد الوجع الجزائري/الصيني، بلغة حادة كشيفرة الموسى أحيانا وبلغة شاعرية في أحيان أخرى، كموسيقى أضفت على الفصول المحكية جمالية خاصة كسرت رتابة السرد والوصف في كذا مشهد وفصل.
تبدأ الرواية من النهاية المفتوحة أفق أزرق/ميناء الجزائر وحالة انتظار وترقب ميلاد سلالة جديدة في جزائر جديدة يحكمها صيني «أطفال الحب يكونون أمراء» ص8.
فحدث الموت لصيني مجهول الهوية هو الذي يغير مصير «سكورا» ويونس الشنيوي من روتين يومياتهما إلى قصة أخرى مغايرة تماما. من حدث الموت تبدأ قصة حب مثيرة بين صيني وجزائرية كلاهما هرب من الجحيم. شخصيتان مليئتان بالأسئلة والشكوك حول نسبيهما، يشوبهما القلق وتسكنهما القصص والموسيقى في عالمين منغلقين بعيدين متشابهين: الصين والجزائر.
بين البداية والنهاية تفاصيل وحكايا هامشية تؤثث للحكاية الأم التي حدثت في مدينة الجزائر بأحيائها المعروفة كحي العناصر وحي باب الزوار وأماكن شهيرة كمعهد باستور، توحي للقارئ بواقعيتها الشديدة الخصوصية.
رواية «الملكة» بطلتها جزائرية اسمها سكورة ساكو، وسكورة اسم امازيغي يعني الحجلة، الصوت المهيمن والجريح، تتولى مهمة سرد حكايتها في ثلاثة عشر فصلا، الممتدة من لحظة الميلاد إلى أن أصبحت رئيسة في مصلحة حفظ الجثث، مطلقة من طبيب جزائري تتحكم أمه الطاووس المعلمة في رغباته ومشاعره، هذه الأم المتسلطة الغيورة حولت حياة «سكورا» إلى جحيم حقيقي، من خلال شكها وتحكمها في كل تفاصيل حياة الابن والبيت. شاءت الأقدار أن تلتقي بالصيني في المصلحة لتبدأ فصلا جديدا من حياتها وقصة حب لها طعمها الخاص وتفاصيلها المدهشة، أو يخيل لها أنها مدهشة بعد تجربة فاشلة مريرة. بعد تعرفها على يونس الصيني تتفتح كل مسامات جسدها على الحكي. سكورا من خلال علاقتها الجديدة تفتح نيرانها على كل ما هو جزائري محلي، تكتشف جسدها، تعيش حريتها كاملة، فانفتحت شهيتها للقول الاستثنائي أمام الغريب «أن تحكي للغريب فأنت أكثر حرية في الحكي» ص107. تتحول العلاقة الحميمية مع هذا الغريب إلى صلاة: «وسقطنا على الزريبة التي بألوانها ورسوماتها تشبه قطعة من الجنة، وصلينا» ص202. فشخصية سكورا مبهورة بالغريب ربما ارتبط هذا الانبهار مذ كانت طفلة بعلاقتها مع الجار الفرنسي المشارك في ثورة التحرير، وتمنت أن يكون ميشال تيسي أبا لها «إن لجارنا السيد تيسي عينين تشبهان عيني في لونهما الأخضر أريده أبا لي» ص113
وعشيقها الصيني الذي حمل الاسم المحلي «يونس الشنوي» هو الآخر يتولى سرد حكايته وقدره في سبعة فصول، الهارب من جحيم بكين والحزب الشيوعي ومن قصة أمه الملتبسة بعلاقتها مع مربي الحجل، ليجد نفسه وسط جزائريين مندهشين من وجود هذا الجنس الأصفر في الشارع والمقاهي وورش العمل، يتهكمون منهم، من أكلهم للقطط والكلاب، أينما حل يونس يسمع تهكم الجزائري العلني: « فهؤلاء القوم لا يتركون شيئا يدب على الأرض….إنهم مثل قوم لوط» ص 218
الصوت الأقل هيمنة في الرواية، صوت عبد الرحمن سائق سيارة الإسعاف، هو في الأصل من المقاومين للإرهاب في بداية التسعينيات، فهذه الشخصية الثانوية اختصرت كل المشاهد العبثية بتحويله سيارة الإسعاف لنقل الجثث إلى سيارة نقل عمومي لنقل الأحياء في العاصمة! والذي نقل جثة الصيني مجهول الهوية إلى قرية «بني فرطاس» على أساس أنه ولي صالح ليدفن في مقبرة القرية، وتحولت القرية إلى مزار حقيقي، وحملت اسما جديدا «قرية الحاج شنيوي». سرد المشهد بسخرية يجعلنا ننتبه إلى عمق المأساة التي خلفتها سنوات الجمر والريع من تخلف وتقهقر كبيرين.
ونقرأ أيضا صوت حفيظة الهاربة من نكاح الجهاد مخلفة وراءها ابنها غير الشرعي في الجبل إلى ضياع آخر لا يقل عن ضياعها الأول في زمنها القاتم بين أمراء الحرب في الجبل، ولن تتوانى في انتقاد سياسة المصالحة الوطنية التي استفاد منها مجرمون حولوا البلد إلى غابة مرعبة.
في هذه الرواية الجريئة نقد لهزيمة الجزائري والعربي أمام المد الصيني/ الآخر، بعلمه ومشاعره وعمله.
هي رواية جلد الذات بسوط اللغة الجارحة المتهكمة من وضع قاتم حقا، ومحاولة جريئة بالفعل لمقاربة الواقع المتأزم، الغارق جدا في تناقضاته وتفككه.
كاتب جزائري
جيلالي عمراني