سوف نبدأ بحكاية شعبية لها دلالة، وما أكثر الدلالات والعبر في الحكايات الشعبية؛ تقول هذه الحكاية إن " كابون " وبينما كان في مغارته بإحدى الليالي، وهو جائع كعادته، وقفت عنزة على باب المغارة وحيته قائلة : السلام عليكم، لكن ذلك تصادف مع صوت حمار ينهق، فلم يرد عليها وخرج مسرعا بحثا عن الحمار، وبعد بحث طويل وجده مربوطا في عمود وأهله يشعلون النار ويحيطون به.. فعاد مسرعا إلى مغارته فدخلها وقال: وعليكم السلام، ردا على العنزة التي كانت غادرت..
منذ سنة 2009 ونحن نعيش خصومة سياسية أعقبت الانتخابات الرئاسية التي رفض جزء من المعارضة نتائجها قبل أن ينبلج فجر اليوم الموالي، وقبل إعلان النتائج، وحتى قبل أن يحين يبيح الحديث عن بقية بنود اتفاق داكار، التي كانت الانتخابات والاعتراف بنتائجها يمثلان المدخل للحديث في بنوده، بغض النظر عن الفائز في تلك الانتخابات، وذلك فقط لأن الكفة ظهر إلى من تميل..! ولا زالت الحجة المقدمة لتزوير تلك الانتخابات، وستبقى، مثار تفكه وتندر. بينما أعلن جزء أخر من المعارضة أنه لم يجد في تلك الانتخابات ما يستند إليه ماديا في رفض نتائجها.
ولأن الحوار توقف برفض نتائج الانتخابات استمرت الخصومة السياسية، ومع ذلك لم يكن أمام المعارضة من بدائل سوى المطالبة باستئناف الحوار، الحوار الذي عبرت الحكومة عن استعدادها له مشترطة لاستئنافه الاعتراف بشرعية الرئيس، إذ لا معنى لمحاورة من لا يعترف بك..! حصل الاعتراف وإن بأسلوب " أخذنا علما " فتهيأت الأرضية للحوار الذي كان سيبدأ غدا أو بعد غد لولا أن " حمار " الانتفاضات العربية نهق، فزاغ بأبصار وأسماع جزء من المعارضة وشد انتباهه عن " تحية " الحوار، فنفضوا أيديهم منه، ليلتحق بهم رؤساء أحزاب وشخصيات وكتاب قفزوا من سفينة الأغلبية التي أيقنوها غارقة بما فيها لا محالة.
عصفت رياح الانتفاضات العربية بأوراق الحوار إذن ليتشبث بها من تشبث، ويتركها لتلك الرياح من تركها تيقنا باستحالة تحقيق الحوار لكامل الأهداف، ولا حوار في الدنيا يحقق كل الأهداف، خصوصا إذا كانت تلك الأهداف تخلي نظام عن سلطته في ظروف عادية وعبر حوار، فالتخلي عن السلطة ـ إذا كان لا مفر منه ـ فإنه عادة ما يكون عبر مفاوضات، وفي ظروف استثنائية، لا عبر حوار! وكان ما كان من حراك السنتين الذي لم يلق تجاوبا من الداخل، ولم يحظى كذلك بالزخم الإعلامي الخارجي الذي كان له الدور المحوري في " نجاح " أمثال ذلك الحراك في بقية البلدان عندما وصفت قناة " الجزيرة " ـ حذام الثورات ـ ما يحدث في موريتانيا بأنه حراك سياسي بلا سند شعبي..
آلت الانتفاضات العربية إلى ما آلت إليه، والمفارقة أن الكل اليوم مجمعون على أن السبب الأساسي في تلك المآلات هو جشع النخب السياسية وضحالة رؤاها وتعطشها للسلطة، صحيح يقولون الدولة العميقة، لكن ما كان للدولة العميقة التي هي دولة المصالح والامتيازات أن تسير الأمور لصالحها وتستعيد مكانتها، في صراع طبيعي على البقاء يطبع سلوك كل كائن حي، لولا أنها كانت الوحيدة في " العمق والتعمق " في التشبث بالمصالح والامتيازات، و لو لم يكن أشخاصها من نفس طينة النخب توقا لتلك المصالح والامتيازات؛ وبالتأكيد فإن لنا دولتنا العميقة كأي بلد آخر، لكن لنا أيضا نخبتنا السياسية الأحدث في التشكل سياسيا وفي التجربة ممارسة من أي من النخب في بلدان الانتفاضات، مما يجعل الصورة واضحة عن ما كان سيحدث فيما لو كان حدث..
يقول أحد المعلقين العرب واصفا تلك المآلات، إن الله بعد أن فضح الأنظمة أمام الشعوب عن طريق أسلوبها في الحكم والتسيير على مدى عقود، أرسل لنا الانتفاضات لتفضح وتعري النخب السياسية أيضا ولكن في شهور؛ ويورد مقولة " روجيه غارودي " الشهيرة ( الحمد لله على أنني عرفت الإسلام قبل أن أعرف المسلمين.. ) ويحمد الله على أن الشعوب العربية عرفت هذه النخب التي كانت هي المعول عليه كبديل عن الأنظمة، فإذا بها لا تختلف عنها في مجملها سوى في أن الأنظمة تجمعها المصالح، بينما النخب تفرقها المطامع والإيديولوجيات، و يعميها التدافع لتركة الكراسي بأي ثمن!
طالت فترة انتداب البرلمان عندنا وأصبح لا بد من تجديده، فبرز الحديث عن الحوار من جديد وبدأت المبادرات من هنا وهناك، وبعد الكثير من التردد والممانعة رأينا الأطراف تلتقي وتتعانق وتتبادل الابتسمات، وتشرع في حوار يمهد الطريق لمشاركة المعارضة في الانتخابات البرلمانية والتشريعية، ولكن لكل مرحلة " حمارها الناهق " وكان حمار تلك المرحلة تصريحات للاتحاد الأوربي بعدم نيته تمويل الانتخابات أو مراقبتها، لتتدافع المعارضة والأغلبية أسباب فشل الحوار، وتنسحب المعارضة وبيدها ورقتان تحسبهما رابحتين، إحداهما تخص النظام اعتقادا باستحالة إقدامه على تنظيم انتخابات لا يرضى عنها الأوربيون ولن يمولوها، والأخرى تخص المعارضة نفسها وتتعلق بسلاح مقاطعة الانتخابات، ولكن مع ذلك جرت الانتخابات بدون تمويل ولا مراقبة الأوربيين الذين هنئوا الشعب الموريتاني بتنظيمها وبنتائجها، كما لم يظهر الأثر الذي كان مؤملا من سلاح المقاطعة، ونفس الشيء تكرر مع الانتخابات الرآسية.
اليوم يدور الحديث عن حوار جديد على وقع نهيق متزامن لحمارين آخرين هما " حمار " الدعوات الفئوية الفئوية التي لم يكن ما يشكوه أصحابها من ظلم وتهميش وليد اليوم، وفي تشكلة المنتدى وزراء وولاة وشخصيات إن لم يكونوا معنيون به أكثر من غيرهم فهم على لائحة المعنيين به. ثم " حمار " ضغوطات الاتحاد الأوربي عندما مُست مصالحه وشروطه المتعود على تمريرها بلا عناء، برفض اصطياد سفنه في مياهنا الإقليمية بشروطه ليضغط ب " الاصطياد في المياه الحقوقية "، وإن أنكر الأصوات لصوت الحمير!
لا يساورنا أدنى شك في أن المعارضة تنصت جيدا لذلك " النهيق " ولا تنكره.. سواء من خلال ما تعلقه عليه من آمال في تقوية موقفها وإضعاف موقف خصمها في حالة ما إذا قبلت الجلوس للحوار، أو من خلال ما هو أبعد من ذلك مما تتمناه من تطور تلك الضغوطات الخارجية والحراك الفئوي الداخلي إلى حد إحداث " شيء ما " كما قال أحد عوالق المعارضة التي علقت بها مؤخرا مما يسمى مجتمعا مدنيا إبان تشكيلها لما يعرف بالمنتدى، ف " شيء ما " تسببه تدخلات خارجية متشابكة الأهداف مع جهات داخلية، كائن ما كان ذلك الشيء، هو ما لدى المعارضة مما تعول عليه اليوم، في ظل قلة حيلتها وهوان بعضها على بعض، وليس ذلك ال " شيء ما " الذي تحدث عنه " حكيمها " مما قال إن المعارضة لا تبحث عنه ولا تريده كالثورة أو الانقلاب، وهذا افتراء واضح حتى المعارضة نفسها لا بد أنها رأته كذلك، لأن الحاضرين والمغتربين من الموريتانيين كلهم يشهدون أن المعارضة لم تبخل في أن يحدث أحد الإثنين، فرسائلها للجيش بأن " يتحمل مسؤولياته " كانت تترى طيلة فترة حراكها، ومن البديهي أن الجيش لا يمكنه تحمل المسؤوليات التي يطالبونه بتحملها إلا من خلال الإطاحة بالنظام، أما الثورة فلم يتم وضع عصاها إلا بعد سنتين من حملها، والمعارضة تقر بذلك ولا تنكره إن لم تكن تفخر به!
وبالتالي فمن يريد قول الحقيقة فليقل إن المعارضة طالبت الجيش بالانقلاب علنا، ولا يهمها أنها لم تستفد من انقلابات الماضي إذا افترضنا أن ذلك صحيحا، وأنها أيضا جربت الثورة أو الاستثارة طيلة سنتين، ولو كانت رأت بصيص أمل في ذلك المسار لواصلته ولما اعترفت علنا بأنه فشل! ولا يغير من الأمر شيئا القول إن إسقاط النظام " أهون مما تتصورون " وهي معلومة لا ندري لماذا بخل بها قائلها على المعارضة عندما كانت أحوج ما تكون لوسائل " مبدعة ومبتكرة " غير تلك التي لجأت إليها طيلة سعيها لسنتين بين " صفا " دار الشباب و" مروة " ابن عباس لا تأدية لنسك ولا ممارسة لرياضة، وإنما بهدف معلن هو إسقاط النظام!، ويتركها حتى تعترف بفشل مساعيها وتدعى لحوار، فيقول لها إن إسقاط النظام أهون مما تتصورون، وأن الحائل الوحيد دونه هو تداعياته على بقاء الدولة وتماسك المجتمع؛ تضليل لا يرقى لحجمه تضليل ومع ذلك لا يضلل أحدا!
لا شك أن بتشكلة المنتدى عقلانيون واقعيون، ولو كانوا قلة، يؤمنون بضرورة وأهمية الحوار في تطوير العمل السياسي والشأن العمومي بشكل عام، ويدركون أيضا أن الديمقراطية قبل أن تكون حقيقية لا بد أن تترسخ، وقبل أن تترسخ لابد أن تتطور، وقبل أن تتطور لا بد أن تكون محل اهتمام شعبي بالأساس مهما وضع السياسيون من آليات وقوانين وإجراءات، وتطوير الديمقراطية وترسيخها لا يتمان إلا بتعاقب وتتالي التحسين والممارسة ثم التقييم، وكل فرصة تضيع تضيع معها فرص التحسين والممارسة والتقييم.. وهذا بالطبع كلام لا يحبذه الطوباويون الذين لا شك أن لهم في المنتدى وجود وتأثير، من الذين يقولون نريد ديمقراطية حقيقية وينامون!
محمدو ولد البخاري عابدين