نعيش في زمن السرعة والقريةِ الكونية، أو الغرفة الكونية اليوم، ومازالتِ البشرية تتعصب لأمورٍ استقتها من العادة وليس من الحقيقة مثل، التعصب للعرِق للون للطائفة للبلد للحي، مع أنّنا الآن نتواصل مع أناس تفصلنا عنهم فيافي وأبحارٌ ومحيطات، ولكن مع هذا لم تمح من عقلية الكثيرين مسألة التعصب، ولم يتأقلموا مع علة الخلق، ألا وهي التعارف لا الاستصغارُ أو الاحتقار للآخر. ومن ألوان التعصب (التعصب اللغوي) الذي سمعناه عند القدماء منذ اليونانية وإلى عصرنا نحن، فجالينوس قال كلمته المشهورة: «اللغات بالنسبة للغة اليونانية نقيق ضفادع»، وسار التعصُّب اللغوي عبر مراحل التاريخ، فصار العبرانيون يرون أن العبرية هي لغة أهل الجنة؛ لأن الله خاطب الناس بها، ولم نسلم نحن العرب من هذه الموضة، فنقلنا أقوالًا ترى أن العربية هي لغة أهل الجنة، ونسبنا قولاً مشهورا إلى النبي عليه الصلاة والسلام – وهو منه براء- ينص على أن العربية هي لغة أهل الجنة «أحبوا العرب لثلاث لأنني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي»، وصرنا ندافع عن لغتنا بهذا القول ونشجع على تعلُّم لغة أهل الجنة، وقلنا إن آدم تكلّم العربية، مع أنه لا يمكن لإنسان أن يدعي معرفةً يقينية باللغة التي وجدت في ما قبل التاريخ، فهي من الأمور التي لا يوجد أيُّ دليل عليها وما يصل إليه البشر في هذا الصدد لا يعدو حيّز التخمينات والتأويلات، التي تخضع في كثير من الأحيان لهوى الناظر في مجالٍ ضارب في الآلاف من السنين.
إذن علينا أن نعيد النظر في مسلمات رَبَّيْنا عليها أجيالَنا وظنَنَا أنها تخدم ديننا، مع أن كثيرًا من النوايا الحسنة تضر بالهدف السامي، بسبب الجهل الذي قامت عليه، ومن هذه النوايا الحسنة، نية من يستخف بباقي اللغات أمام اللغة العربية، ويستدل بالنص السابق على أن اللغة العربية هي أفضل اللغات، وهو لا يدري أنه يكسر قلب ابن اللغة الأخرى لإشعاره بالدونية، وأن العربي يمتلك ما لا يمتلكه غيره ألا وهو مفتاح التواصل في الجنة اللغة العربية، ويحتجُّ على ذلك بأن الله تعالى أنزل القرآن باللغة العربية، مع أن هذه الحجةَ مردودةٌ، لأن الله أيضًا خاطب الناس بالآرامية وبالعبرية، فهذا يشرعن لأصحاب تينك اللغتين في أن يعتبروا لغتهم لغة أهل الجنة أيضًا. فهذه المسألة تحتاج إلى إعادة نظر، ونستدل على خطئها من نصوص القرآن نفسه، فالقرآن الكريم لم ترد فيه آيةٌ تدلُّ على أفضلية العربية على باقي اللغات، وإنما الذي ورد في النص القرآني هو تحدٍ للعرب أنَّ هذا النص الذي يخاطبكم فيه رب محمد ـ صلى الله عليه وسلم- هو من لغتكم، بل من أفصح أساليبكم ولن تستطيعوا تحديه. هذه هي الرسالة التي حملتها معظم الآيات القرآنية التي وردت في الكتاب العزيز، ولم تردْ فيه آيةٌ تدعو الناس إلى الاستخفاف بلغاتهم وهجرها والتعرف على لغة العرب، لأنها من أفضل اللغات. ولتأصيل ما أقول أستدلُّ بأقوال الذين قالوا بأن اللغة العربية أصل اللغات وأفضل اللغات، ألم يقل هؤلاء إنَّ اللغات بشكل عام وقف على الله ولم تتم بالمواضعة، بل هي هبة من الله خالق الإنسان؛ إذن كلُّ اللغات هي من الله فإذا ادعينا تفاضل لغةٍ على أخرى فإننا – وحاشا لله- ندعي أن الله فضَّل قومًا على آخرين، وهو العدل، فكيف يعطيني لغةً أفضل من لغة غيري ولماذا فضلني على غيري؟ وهو يقول إنَّ من آيات قدرته جعل الناس مختلفي الألسن «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ»، وبيَّن لنا في آية أخرى علَّة الخلق فقال: «لتعارفوا» ولم ينصَّ لا في آية ولا في سِفر ولا في إنجيل ولا توراة على أنَّ قومًا أفضل من آخرين لتمتعهم بلسان يفوق لسان غيرهم، فاللغة كما قال ابن جني: «أصوات يعبر بها كلُّ قومٍ عن أغراضه»، وكلُّ ابن لغة يرى أن لغته تعبر عن أغراضه وحاجاته وتواصله، ويرى أنَّ لغة غيره لا تفهم ولا تحقق التواصل لقصور فهمه هو، وليس لقصور لغة الآخر؛ ولهذا ردَّ ابن حزم على جالينوس بقوله: «وهذا جهلٌ شديدٌ؛ لأنَّ كل سامعِ لغةٍ ليست لغته ولا يفهمها، فهي عنده في النِّصاب الذي ذكره جالينوس ولا فرق.
وأما من يحتج بكونِ النبي عليه الصلاة والسلام عربيًا، فهذا لا يعني أفضلية العربية، وإنما يدل على كرم الله وإدراكه لحاجة البشر، فيرسل إلى الناس يدعوهم بلسانهم: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمه لِيُبَيِّن لَهُمْ …»، وكان عليه الصلاة والسلام ممن أوتي جوامع كلم لغة قومه.
فقضية اللغة العربية يجب ألا تجعلنا كما قال اليهود، نحن شعب الله المختار فساقوا ذلك إلى اللغة وجعلوا اللغات تنسب إلى سام ونسبوا سام إليهم، وجعلوا لسانه أوّل الألسن ونشروا مصطلح اللغات السامية معتبرين لسانهم هو الأوّل وباقي اللغات له تبع.
علينا أن ندرك أنني عندما أحترم لسان الآخر فإنني أحترم اللبن الذي أخذه من أمِّه؛ لأنّ اللغة يطلق عليها لغة الأم، فإذا استخففت بلغته وأريته الدونية فهو يرى دونيته في أصله وليس في لسانه وحسب، ومن يستدل بأقوال العلماء على عظمة اللغة العربية وبراعة بلاغتها فكلامه وصفٌ للغة التي يتقنها، ولا يعني عدم اكتناهه لحقائق اللغات الأخرى دليلاً على ضعفها، فكل ابن لغة يجد جمالياتٍ في لغته؛ ولهذا ينبغي أن نفصِّل بين القرآن كرسالة ربانية جاءت بأرقى مستوى لغوي للغة القوم الذين كانت فيهم الرسالة الخاتمة، وبين اللغة كلسان قوم كباقي الأقوام الذين خلقهم الله بالتساوي، وألا نجعل العرف والعادة والتعصب دينًا ندين به، فرسالتنا أسمى من هذا وقرآننا أتى ليُعطي كلَّ إنسان قيمته، ومن أراد الدليل فالقرآن الذي جاء بلسان عربي مبين فيه أنصعُ دليل على أنَّ الدعوة الإسلامية همُّها المساواة بين البشر، وليكن شعارنا قول رسول البشرية والإنسانية «لا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ إلا بالتقوى والعمل الصالح».
فأنا أعشق لغتي وأراها من آيات الخالق وأتنغَّم في قراءتها وموسيقاها، وأسلِّمُ بأن أعلى مستوى وردت فيه هو كتاب رب، كما أنني أعشق كل ألوان الفنون اللغوية التي حملتها لغتي، ولكنني لا أقول للآخر لغتك لا قيمة لها أمام لغتي ولا أدعوه إلى لغتي على أنها لغةُ أهل الجنة، بل أحترم لغته وأراها آيةً أخرى من آيات الله الدالة على عظمته، وبهذا عندما يُقبل على لغتي لتعلمها يقبل بدافع الحب في التعارف والحب للإنسان والحب لفهم القرآن والعيش مع تعاليمه التي ساوتْ بين بني الإنسان، من دون تقليل من شأن لغته. فاللغة كصورة الإنسان التي خلقها الله عليها وكالأرض التي وُلد فيها لا يدَ له في اختيارها واختيار المجتمع اللغوي الذي أخذ منه لغته.
كاتب مصري ـ جامعة أتاتورك
محمد خالد الفجر