الشّعر ذو البعد الواحد – موت الشّعر

جمعة, 2014-07-04 23:15

يندرج الشّعر مفاهيميّاً في سياق المراوغ والعصي، وذلك بوصفه نصّاً متعالياً، ولاسيما إشكالية التّخلّق المستندة إلى الإلهام. ففي الموروث العربي القديم يحال الشّعر إلى قوى غيبية كأن يكون للشّاعر شيطان أو جني، ولهذا حاز الشّاعر مكانة بدت أقرب للنبوة، من منطلق الموهبة والرؤية التي لا توهب لأي كان، أو لأي شاء.
وفي الموروث الغربي فقد جعل أرسطو الشّعر متفوقاً على التّاريخ، كون الثّاني يتحدث عن أشياء حدثت، في حين أن الأول يتحدث عن أشياء يمكن أن تحدث. وحديثاً نظر للشّعر على أنه يمثل قيمة يمكن أن يستعاض بها عن الفلسفة، والدّين، بل وبمقدوره أن يحلّ بديلاً عن قيم متعددة منها الاغتراب، والمغامرة، أو حتى يمكن أن يعد حياة بديلة كما يرى ت. س إليوت، وبذلك، فالشعر أقرب لأن يكون حاجة، لا ترفاً، أو فيضاً من لغة، ولكن حين تتراجع وظيفته، فإن قيمته، ووجوده يصبحان موضع مساءلة، وإعادة بحث.
يُشار إلى أن أرسطو هو أول من منح الشّعر تلك القيمة نظراً لوظائفه المتعددة، وذلك بعد أن نبذه أفلاطون من جمهوريته الفاضلة، غير أن هذه الوظائف غالباً ما تنازعت مواقعها في أذهان الشعراء والنّقاد على حد سواء، ولكن على الرّغم من هذه الاختلافات إلا إن بعض الدّراسات تواضعت على أنها تتحدد بالمحاكاة، والتّثقيف، واللذة، والتّواصل، والتّطهير. فالشّعر عُني بالتّعبير، والتّنفيس عن مكنونات النفس البشريّة، وهو قائم على وقود انفعالي وعاطفي، علاوة على ما ينطوي عليه من رؤية وفكر. وبذلك تتعالى وظيفتا المتعة والتثقيف، وبينهما، مكث الشّعر، يمارس دوراً جمالياً وتعليمياً، فهو الأداة القادرة على النّهوض والتّعبير عما يثقل كاهل الإنسان، وموقعه في عالم غامض، وغريب، بالاتكاء على الصّوت والعلامة اللغوية، فالمحاكاة تعدّ محوراً لفعل التّكون، وذلك نتيجة الإحالة لإشكالية الخلق، ولكن بالكلمات، وأحياناً بالرّسم … كما قال أرسطو في مصنفه» فن الشّعر».
وإذا ما نظرنا إلى الشّعر بمنظور ارتجاعي اتكاء على وجهة نظر أرسطو، سنجد أن الشّعر ملازم للإنسان منذ أن بدأ يعي الأخير حاجته للتمثيل، والمحاكاة، إذ عده أداته الوحيدة لخلق عالم موازٍ يتأسس على الصّوت، الإيقاع، والوزن، والخيال، وهذا يعود لكون هذه العناصر تنطوي على قيم اللذة، والسّرور، وقد استمر هذا النسق لقرون، ومع ذلك فقد كان الشّعر قابلاً لأنساق من التّحولات التي ترتكز على التلاعب بالإيقاع، والمضامين، ولكنه في المجمل، بقي رهين وظائفه، والتي هي في الوقت ذاته مصدر بقائه، وديمومته، ولكن الأشياء تختفي وتتلاشى عندما تفقد وظيفتها، أو قيمتها كما يرى رينيه ويليك. وفي زمننا المعاصر بات الشّعر موضع مساءلة، وذلك نتيجة تراجع الوظائف المنوطة به نتيجة تحولات عميقة، طالت الإنسان الذي فقد موقعه في أزمنة الحداثة حيث بات مخترقاً، ومهيمناً عليه بدءاً من البِنية، وانتهاء بالمؤسسة، والتّكنولوجيا، ومستوياتها الرّقمية، وخاصة طابعها الاستهلاكي الذي أوجد إنساناً ببعد واحد، ولكن كيف انعكس ذلك على الشّعر؟
إذا كان لدينا إنسان ذو بعد واحد، فإن ذلك يعني شعراً ذي بعد واحد، وهنا نستعير تبصّرات هربارت ماركوز أحد أعلام مدرسة فرانكفورت في مناقشته لمفهوم الإنسان ذي البعد الواحد، والذي يرى فيه نتاجاً تمخّض عن ممارسات الرّأسمالية، وما استجلبته المجتمعات الصّناعية من أنساق، ترتهن للقيم الاستهلاكية، والتي تتعارض- حقيقة- وحاجات الإنسان الحقيقية، ولهذا أضحى الإنسان فاقداً لسيادته، إذ سعت الرّأسمالية إلى تذويب الفروقات بين أفراد المجتمع عبر جعلهم متماثلين في السّلوك الاستهلاكي، وبذلك فهي تجهض أي محاولة للثورة، والتغيير، كونها تلبّي طموحات الإنسان، ورغبته في التّغيير المستمر، وبالتالي، فإن الهيمنة تتخذ طابعاً عقلانياً ممنهجاً، ولهذا فإن أية محاولة للنقد ستتخذ طابعاً لا عقلانياً كما يوضح ماركوز، وهكذا يُمنح الإنسان إحساساً بالتّماثل مع من يفوقه مرتبة، وذلك للتّمويه على الطّبقية، وفعل الاستغلال. فالرّأسمالية تتيح للإنسان العامل القدرة على امتلاك سيارة شبيهة بسيارة رب العمل، أو أن يشاهد الاثنان البرامج ذاتها، مما يعني بالمحصلة مجتمعاً ذا بعد واحد حيث يتلاشى التّناقض أو التّباين الجلي، مما يسهّل فعل الهيمنة، وبذلك تبقى الحاجات قائمة لأن الإنسان أضحى مرتبطاً بها، نظراً لما يمنحه هذا الأسلوب من إحساس بالتّماثل، على الرغم من أن هذه الحاجات وهمية، وزائفة كاذبة.
ولعل نسق الإنسان ذي البعد الواحد شبيه بما آلت إليه الأمور فيما يتصل بفعل الكتابة الشّعرية، إذ مكّنت القيم التّكنولوجية، ولاسيما الرّقمية كل إنسان من الكتابة، والتّعبير، وبهذا لم يعد هنالك وجود معنى لتميّز الشعر، أو الشّاعر على حد سواء. فالشّعر بما يحوزه من قدرة على الاختزال والتّكثيف، فضلاً عن اتكائه على معطى اللغة بتكوينها الحر، وتكثيفها العميق، يكاد يتساوق، ويتماهى مع أنساق الكتابة الجديدة، وهذا أضحى يماثل تلك الحريات المصطنعة التي أقنعت الرأسمالية إنسان العصر الحديث بأنه يمارسها، أو يمتلكها، فالقدرة على اختيار الإنسان للسيارة التي يريدها، أو الهاتف الذي يعجبه، أو حتى نوع حاسوبه، وساعته، ما هو إلا نمط من الحرية الزائفة، لكون الإنسان أصبح كمن استغنى عن الحرية بوهم الحرية، ولعل هذا ينسحب على كتابة الشّعر وقع الحافر على الحافر، إذ باتت الكتابة فعلاً مشاعاً، وبذلك انبثق نسق من الحرية الذي بات الكل مالكاً له، ولكن فيما يتصل بالكتابة فقط، غير أن هذا النّسق فارغ، ووهمي، فهو لا يستند إلى قيم حقيقية، ولاسيما في غياب الأيدلوجية والفكر، والذي ينبغي أن يفضيا إلى تحول حقيقي، وحتى الكتابة من أجل الفن، فهي تعد مظهراً من الأيدلوجيا التي كان يؤمن البعض بها، ويدافع عنها باعتبارها موقفاً، ولكن الإشكالية تكمن حين نكتب من منطلق أننا نملك أن نكتب، فهذا يعني إننا ننطلق من فراغ.
لعل هذا النسق بدأ في التّبلور منذ منتصف التسعينيات من القرن المنصرم تبعاً لعدة عوامل، ومنها انهيار مشروع المقاومة، وظهور اتفاقيات السّلام، وتفكك المعسكر الاشتراكي، وتصاعد المد الديني، بالإضافة إلى ظهور القيم الرقمية، ووسائل التّواصل الاجتماعي، ناهيك عن الفضائيات، والسّينما ذات الأبعاد الثلاثية، فهذه التّحولات مجتمعة نتجت بفعل هيمنة قيم الصّناعية الرأسمالية التي لا تقودها دول فحسب، إنما شركات عملاقة متعددة الجنسيات، استطاعت أن توظف التّقنية والمستويات الرّقمية، ودورها الإعلامي الكاسح في القضاء على جميع الأبعاد التي ميزت الإنسان، بالاستناد إلى دراسات تختصّ برصد السّلوك النفسي للمستهلك.
ونتيجة لهذا التّحول، فقد أضحت الكتابة الشّعرية قلقة، إذ بات الإنسان غير معني بالشّعر نظراً لانتفاء وظيفته التي كان يضطلع بها سابقاً، حين كان الشّعر يرتبط بالإنسان، ولكن باندحار الثاني، لم يعد الشّعر أداة للنقد، والسّعي للتغيير، بل لم يعد أداة للتواصل، ولا حتى لتحقيق اللذة، في حين أمست قدرته على المحاكاة لعبة قديمة الطّراز، وسمجة، ناهيك عن انتفاء قيمته التّثقيفية، في زمن سيولة المعلومات، ووفرتها، ناهيك عن التواصل الدائم، واللحظي عبر وسائل التّواصل الاجتماعي، علاوة على ما تختزنه السّينما والتلفاز والإنترنت من قدرات على تحرير المشاعر، وهكذا تحول الشعر إلى معطى باهت، لا يمارسه سوى مجموعة من الشّعراء الذي فقد شعرهم وظيفته، وبهذا فقد تحول إلى قيمة، ولكن يمكن أن تستبدل بعد أن كان عالماً بحد ذاته، فقديماً كانت قصائد هوميروس والمتنبي عوالم بديلة، ولكن هذا لم يعد قائماً، أو لم يعد حاجة ضرورية في هذا العصر. وهكذا فقد أفضى هذا النسق الجديد إلى شعر ذي بعد واحد، ولاسيما في العقدين الأخيرين، فالشّعر في تعاليه عن مناقشة اليومي، والمألوف دخل في منطقة المهجور، فلا عجب أن كلمات أغاني «الراب» تمتلك طاقة وجاذبية طاغية من حيث قدراتها التعبيرية عن مشاكل العصر، وتحديداً بمظاهره الجديدة، وبإيقاعٍ يتساوق والزمن. في حين سكن الشّعر بزاوية بعيدة، لا يكاد يراه فيها أحد، فالشّعراء باتوا غير قادرين على تجسيد عبارة شعرية راسخة، حيث أضحت مفرداتهم، وتراكيبهم منتقاة بعناية من معاجم ودواوين شعراء مضوا، بل إن هذه المفردات وقعت في لعبة الاصطفاف الأفقي، ولكن في سياق علاقات لا تحتمل معنى، أو وظيفة لكونها عقيمة، فهي لا ترتبط بقيم العصر، ولا تدرك إشكالياته، ومع ذلك، فهي تدّعي الدّهشة والغرابة، أو تدعي الإدهاش، ولكن دون أن تصيب مقتلاً في المتلقي الذي أمسى يرى الشّعر والشّعراء سواء، فالشّعر لم يعد في العقدين الأخيرين سوى محاولات لاجتراح، وتكرار أفق لنماذج شعرية مُتعالية، امتلكت لحظتها الرّاهنة في بينية التّحولات، ودهشتها، فالسّياب ودرويش ودنقل والبياتي أدركوا (بقية) من جذوة الشّعر حينما كان يتعالق بوظيفته التي لم يخنها لقرون، ولكن هذا كان قبل أن تجتاح قيم التكنولوجيا، ووسائطها الرقمية والإعلامية الإنسان، وتحديداً في ظل انهيار المقولات الكبرى، والهزائم المتكررة.
ربما يذهب البعض إلى التّساؤل عن الرّواية التي ما زالت حاضرة، وبل تشهد ازدهاراً، وتعليل ذلك يعود إلى كون الرّواية تناقض قيم التّسارع، إذ تبدو صامدة بقدرتها على تثيبت المعنى المستند إلى قيم شعورية، تتغذّى بالتأمل المستند إلى متعة الحكي، والذي يتطلب مستوى معقداً من تقنية الكتابة، وبالتالي أضحت الرواية عصيّة على الاختراق لكونها ذات أبعاد، لا يمكن للشّعر أن ينهض بها نظراً لامتثاله للآني واللحظي والسّريع، فهو ينهضُ على لحظة الاشتعال، والوميض التي تبدو أقرب إلى مفردات العصر، وإيقاعه مما جعل بدائله متوفرة. والرّواية ربما تبدو أقرب للصّمود كونها تعزل الإنسان، ولأنها تتطلب وعياً، وتتبعاً عميقاً، وهذا يعني وظيفة مناهضة لقيم التّسارع الرقمي، علاوة على ما تكتنزه من قدرة على اختزال مشكلات الإنسان، وتعقيداته، نظراً لحداثتها، فهي في نشوئها قد تزامنت بنشوء المجتمع المديني في الوطن العربي، بعكس الشّعر، وهكذا فلا جرم أن تبرز ظاهرة الشّعراء الذين يتحولون في إبداعهم نحو الرّواية إدراكاً منهم بتبدد وظيفة الشّعر، وعدم قدرته على أن يكون حاملاً لأبعاد جديدة. ومع ذلك فإنّ الرّواية ليست محصّنة بالكلية، ولاسيما أمام اجتياح الصّورة، والسّينما ومتعلقاتها، ولكن هي في الوقت ذاته تعدّ مصدراً مركزياً لتغذية المؤسسة الإعلامية -التي تخضع أصلاً للشركات الصّناعية-في صوغ، وتنميط الإنسان، وجعله ذا بعد واحد. إن بدائل الشّعر باتت أكثر قدرة على ممارسة ذلك الاختزال، والاشتعال، ولاسيما عبر نص رقمي، أو تغريدة، أو أغنية راب قادرة على أن تحدث نشوة، أو تثقيفاً، أو حتى نقداً عابراً.
وهكذا، فإن الأجيال التي وعت ذاتها، وهي تحتضن قيم التّواصل السّريع والتّقني، لم تعد تستسغ هذه العبارات الشّعرية الحائرة بمعناه المتواري، كونها لا تجسد قيماً، ولا تضطلع بوظائف أضحت معطّلة. وفي زمن تبدو فيها الأيدولوجية نسقا حائراً بين بعدين منغلق ومنفتح، برز إنسان القرن الواحد والعشرين، وخاصة العربي الذي راكم الكثير من الخيبات، والهزائم المتتالية مما دفع الأجيال الجديدة إلى نمطين: الانكفاء والتّواري خلف قيم مادية جوفاء، أو اللهاث وراء معنى روحي أفضى إلى قيم الانغلاق والظلامية والتّطرف. وبهذا بات الشّعر غريباً عن كلا التّصورين كونه بات فاقداً لخاصية اللذة والتّعلم، إذ لم يعد سوى هذيانٍ، وتهويمات، لا تتصل بواقعية المعاش، ولا تعبّر عن قلق الإنسان، وهكذا بات الشّعر ببعد واحد غالباً ما يتغذّى بأمشاج ما أعدّه الأسلاف من الشّعر، بقيمه ووظائفه، فشعرنا اليوم أضحى بلا رسالة أو غاية ترتجى. ولهذا فإنه يحتاج إلى إعادة نظر فيما يتعلق بتكوينه، ووظائفه كي يكون قادراً على الصّمود، والتّعبير عن أبعادٍ جديدة، فالشّعر ما زال قادراً على الاضطلاع بدور جديد، ولكن هذا رهينٌ بقدرتنا على إعادة النّظر بما نكتبه من الشّعر، وذلك قبل أن نشهد موته، وغيابه واقعياً !

رامي أبو شهاب