.... كانت غالبية السجناء تحاول ـ رغم المنع ـ الحديث، مع أن كل تلك المحاولات كانت تتوج بزيادة العقوبات عليهم، وهنا أذكر شيخا أفغانيا كان من الظاهر أن اعتقاله جاء لأنه شجب المعاملة مع ابنه،
وكان الفقير المسكين لا يتمتع بكامل قواه العقلية ولم يكن يستطيع التحكم في حديثه لأنه ببساطة لا يعرف أن يوجد ولا يعرف لماذا يوجد في المكان الذي يوجد فيه، إلا أنه رغم قلة الوعي وضعف الحيلة لم يجد الحراس في "نقصه" البين سببا ليرفعوا عنه أيديهم حيث كان يعلق بيديه لتبقى رجلاه تخطان في الأرض في مشهد أكثر من بائس ولن أنسى ذلك اليوم الذي أقدم فيه أحد الحرس على إسقاطه أرضا ليبدأ في البكاء بطريقة مريرة تشبه بكاء الأطفال ـ يضيف ولد صلاحي في هذه الفقرة من حديثه عن بدايات رحلته في غوانتنامو ـ
كنا جميعا محصورين في ما بين ستة أو سبعة غرف تحيطها الأسلاك والشباك الحديدية، وكانت كل واحدة من تلك الغرف تحمل اسم إحدى العمليات التي هوجمت فيها وحدات من الجيش الأمريكي في مكان ما من العالم، حيث توجد هناك غرفة باسم دار السلام وأخرى باسم نيروبي وثالثة باسم المدمرة "كول"..إلى آخر مسطرة العمليات التي نفذت ضد الجيش الأمريكي في أماكن متفرقة من العالم.
كان في إحدى هذه الغرف أحد المعتقلين يحمل اسم "الانكليزي" وكان مكرسا من قبل إدارة السجن لترجمة القرارات التي يصدرها السجانون لرفاقه، وقد كان "إنكليزيونا" مواطنا سودانيا مهذبا يحمل اسم "....."، وقد كانت لغته الانكليزية ضعيفة إلى حد بعيد وفي إحدى المرات سألني عن ما إذا كنت أتحدث هذه اللغة فأجبته بالنفي رغم أنه كان بإمكاني أن أحسني في حجم شاكسبير إذا ما قارنت لغتي بلغته.
هناك كان الرفاق يظنون أنني أضن عليهم بمعلوماتي متوهمين أنني أحسن الحديث باللغة الانكليزية ـ يضيف ولد صلاحي ـ إلا ان الحقيقة هي أنني لم أع إلى ذلك الوقت درجة حرج الوضعية التي كنا جميعا نرزح تحت تفاصيلها الموغلة في الإيلام.
وجدت نفسي يقول ولد صلاحي ـ وأنا امام مجموعة من المواطنين الأمريكيين العاديين وحين أراهم وهم يمضغون بدون توقف كان أول سؤال يجول بخاطري يدور حول حقيقة مشكلتهم التي تدفعهم إلى الأكل بكل هذه الشراهة.كانت غالبية الحراس من ضخام الجثث والذين يتوفرون على أوزان زائدة وكانوا تماما كالناس في الخارج بينهم الودود وبينهم الموغل في العنف، وحين أجدني أمام أحد أفراد الكتيبة العنيفة كنت أتعمد الإيحاء له بأنني لا أفهم لغته الانكليزية ولا ازال أذكر أحد هؤلاء الذين كانوا يظهرون أمام على شكل "الكوبي" حيث كان في منتهى العنف والقسوة.
سألني هل تتحدث اللغة الانكليزية؟
فأجبته لا لا أتحدث الانكليزية
فقال لي لا نريد أن نراكم وأنتم تتحدثون الانكليزية لكن شوقنا يقودنا إلى أن نراكم وأنتم تموتون في بطء شديد.
فأعدت جوابي له قائلا "pas d’anglais "، كان ذلك فقط من أجل ان امنعه لذة أن يحس بأن رسالته الدموية قد وصلتني وأنها لامست شغاف قلبي، خصوصا وان الأفراد الممتلئين بالعنف يحسون دائما بالرغبة في قذفه في وجوه الآخرين حينها قررت ألا أكون الوعاء الذي سيخرج إليه هذا الكم من الحقد والكراهية.
كانت الصلاة في الجماعة محرمة على نزلاء السجن وكان كل واحد من المعتقلين يصلي وحده بما فيهم أنا،دون ان يكون بين يديه أدنى كم من اليقين في وقت الصلاة ولذلك اتفقنا على أنه كل ما قام احد من النزلاء للصلاة فهمنا ان الوقت قد حان و أوكلناه توقيت صلاتنا.
كان من الممكن ـ يؤكد ولد صلاحي ـ أن يحصل أي نزيل على نسخة من القرآن الكريم ولا أتذكر أنني طلبت نسخة منه خصوصا وأن الحارس الذي يأتي بالنسخة كان دائما يرميها كما يرمي أي قنينة ماء في مشهد يوحي بأنه لا يكن القليل من الاحترام لهذا الكتاب المقدس لذلك لم أرد أن أكون مسؤولا عن مشهد تدنيس كلام الله بطريقة أو بأخرى، وكانت دوافعي إلى ذلك كثيرة فمن سعادتي أنني أحفظ القرآن عن ظهر قلب، وأذكر أن أحد المعتقلين منحني نسخة من القرآن لم يكن حد يعلم بوجودها في غرفته ولا أنا اعرف في أي غرفة يوجد ذلك المعتقل.
يومان بعد ذلك، أخرجني .... من غرفتي للتحقيق معي وكان المدعو ... هو من يتولي الرجمة.
سألني قائلا: ماهي قصتك ؟
فأجبته : اسمي محمد ولد صلاحي، وقد حزت شهادة الباكالوريا سنة 1988 مع منحة للدراسة في الخارج وتحديدا في ألمانيا ، وواصلت له سرد قصتي دون أن أجد في ملامح وجهه أي تعبير من تعابير الدهشة للمعلومات التي أسوقها إليه رغم أنني كنت أعرف تماما ما يريد أن يسمعه إلا أنه لم يكن بيدي أي شيء لأساعده خصوصا وأن المعلومات التي يريدها هو لا توجد لدي.
يتواصل