ما إن تفتح إذاعة أو قناة تلفزية عربية إلا وتترقرق في مسمعك أغاني رومانسية عاطفية، هاجسها اللوم والعتاب للمحبوب، الذي يكون رمز الخيانة أو الغدر، أو الغياب الطويل عن الحبيب أو عدم الشعور بالأمان معه، ليظل السؤال: هل مجتمعنا العربي وثقافته لا تلوكان إلا موضوع الحب والعشق، أم أن الضغوط المعيشية سلبت من الناس صدق الحب والالتياع بلواعجه، مثلما كنا نطالع ذلك في كتب السير الشعبية وفي القصائد الشعرية العربية القديمة، أمثال: امرئ القيس وولعه بفاطمة وعنيزة، وعنترة بن شداد وغرامه الجنوني بعبلة، وجميل بن معمر الملقب بجميل بثينة لفرط حبه لها وهلم جرا. فأصبحنا غرباء حتى في حبنا.
وإذا كانت هيمنة الطابع الوجداني والعاطفي على المشهد الغنائي العربي، فان سؤالا آخر يطرح نفسه: لماذا تقوم الأفلام المصورة للاغاني أو ما يسمى بـ»الفيديو كليب» على المشاهد الإباحية تتزين فيها الأنثى وتتخلع بكل ما تتيحه لها أدوات التجميل وابتكارات تصاميم الأزياء من ملابس تكشف أكثر مما تستر الجسد وتكسيه؟ وهل سيظل للمشاهد العربي الغارق في همومه اليومية حس جمالي بالمشاهد وذوق فني بكلمات الأغاني وموسيقاها أمام هذا التعري السافر لممثلات الفيديوكليبات الذي يخدش حياء الأمة العربية الإسلامية، ويشوش على قصدية الأغنية التي من المفترض أن تعالج قضايا إنسانية راقية المشاعر نبيلة الهدف مثل ثيمة الحب؟
لقد أصبحنا نحس باغتراب موسيقي وغربة لغوية في كلماتها وتعابيرها وغرابة ثقافية إلى درجة الشعور بالهجنة الفكرية والاستهجان العاطفي، فأصبح الشاب العربي بين حيرة التجربة الغرامية المشاهدة في الفيديوكليبات هل هي بالفعل تمثل واقعنا العربي الإسلامي؟ وحيرة المِخْيال الفني الذي يفتح المتاريس الممنوعة أمام العشق في هذه الأفلام من لمس مباح وما ان ينتهي الفيديو كليب إلا ويعود المشاهد إلى الواقع العربي الإسلامي المحرم لكل هذه التصرفات، سواء على الصعيد الديني أو على الصعيد الاجتماعي (التقاليد والعادات)؟
إن اللغة الشبقية في الأغاني العربية القائمة على الوصف البراني للجسد وإبراز معالمه الخارجية الفاتنة أدت إلى إحداث وقع جمالي سلبي في المتلقي وشرخ توقعي لديه، لكون هذه اللغة المصورة لسطحية الحب والمصحوبة بصور إباحية حولت الجسد الأنثوي إلى مجرد شيء خال من الإنسانية ومحفزا لإثارة غرائز السامع وتجييش مكبوتاته واستثارة نزواته المدفونة في «اللهو».
وإذا تأملنا بعض أعمال المغنين العرب أمثال: هيفاء وهبي واليسا ومي سليم ونانسي عجرم والين خلف وعمر ذياب وتامر حسني وغيرهم كثير جدا، فإننا سنسجل أن الجسد يحضر بكل تفاصيله ومفاتنه التي تستفز الآخر، سواء كان سامعا أو مشاهدا، وتستقطبه لتمحي هويته وتحمي تسرب ثقافة دخيلة على فكره وتوغلها في حياته، إلى درجة يصبح الحضور الجسدي في هذه الأغاني لا يوازيه إلا حضور اللغة كجسد في أوصافها ودوالها، لغة تختار تعابير ذات الصوغ الجنسي المُوحِّد بين العاشق والمعشوق.
وبهذا تنقلب المعادلة التي سادت القصائد الغزلية العربية القديمة القائمة على سمو بالشعور تجاه المحبوب والتوحد معه وبعده عن المادية في هذه الأغاني العربية الحديثة، فتصبح الحسية والمادية هي الطاغية فيها ويشرخ التوحد إلى درجة الشعور بالانفصالية الوجدانية بين المُغرَم والمغرم به ولا يبقى إلا الالتحام الجسدي وكأننا في فيلم للخلاعة.
ومردُّ التغني بالجسد والاحتفاء به في الموسيقى العربية هو إضفاء سمات التمجيد إليه واعتباره عنصر فوضى واضطراب غريزي وعاطفي عند المتلقي، الذي يجب جذبه ليستهلك أكبر قدر ممكن من الموسيقى، من خلال شراء اسطواناتها، ليكون السبب الأول بالتغني الجسدي هو الهدف التجاري والإشهاري أساسا وليس مرجعه الحب الذي يكسر كل التابوهات.
ليظل السؤال: لماذا يراد بتحويل الحب من موضوع مثالي مقدس إلى شيء استهلاكي حسي؟ وما درجة الصدق في العاطفة المصورة في الأغاني وأفلامها؟ وكيف يتحول انتظار الحبيب إلى ملل وخيانة؟ وما مآل الالتزام الذي ألفيناه في الأغاني الطربية أمام أيروسية اللغة والجسد في الموسيقى العربية المعاصرة؟
باحث من المغرب
أحمد استيرو