حين يغتني الجهل بسوء النية!

رسالة الخطأ

Deprecated function: preg_match(): Passing null to parameter #2 ($subject) of type string is deprecated in rename_admin_paths_url_outbound_alter() (line 82 of /home/amicinf1/public_html/sites/all/modules/rename_admin_paths/rename_admin_paths.module).
أحد, 2015-02-15 16:15

نشر السيد سليم البيك في عدد 12 شباط/فبراير 2015 من صحيفة «القدس العربي» مقالاً حمل عنوان «ميلان كونديرا وإسرائيل» يبدو لي أنه اعتمد فيه على مقال سابق لزميل له يُدعى حسن حميد كان قد كتبه ونشره في صحيفة «العروبة» السورية عام 2007 ثم أعاد نشره ثانية في صحيفة «الوطن» العمانية عام 2010. ذلك أنه يكرر في مقاله ما جاء في المقال الأصلي مع تغيير العنوان واختلاف الذائقة (فحسن حميد لا يعتبر كونديرا كاتباً كبيراً في حين أن سليم البيك يعتبره روائياً كبيراً) رغم أن الهدف واحد: اتهامي بصفتي مترجم كتاب «فن الرواية» لميلان كونديرا بحذف مقطع من أحد فصول الكتاب بقرار ذاتي. يكتب سليم البيك حرفياً أن المترجم: 
«تفضل على القارئ العربي وقرّر في ترجمته حذف ما بدأت به كلمة كونديرا، (…)17 سطراً في النص الفرنسي، محذوفة تماماً من الترجمة المذكورة، بمبادرة ذاتيّة من المترجم (لا الدار) حرصاً منه على سلامة آراء وقناعات القارئ كما يبدو.»
لن أدخل في نقاش يبدو لي عقيما منذ البداية حول علاقة كونديرا بإسرائيل. ما يهمني هو أن أبيّن للسيد سليم البيك أنه تسرع كثيراً في الاعتماد على مقال حسن حميد وأنه كان عليه أن يبذل بعض الجهد الشخصي كي يكتب مقالاً لا يُعرِّض كاتبه إلى الاتهام بالجهل أو بالكسل أو بسوء النية أو بكل ذلك معاً.
يعتبر السيد سليم البيك أنني حذفت بقرار ذاتي (كيف عرف أنه قرار ذاتي لو لم يكن قرأ مقال حسن حميد الذي يكرر الاتهام نفسه؟) مقطعاً من بداية الفصل السابع من كتاب «فن الرواية». لكنه يبدو، مثل حسن حميد، أنه لم يكلف نفسه عناء قراءة الكتاب المترجم أصلاً. إذ لو كان قد قرأه لاكتشف مثلاً أنني ترجمت المقطع الأخير من مقدمة كونديرا لكتابه الذي يقول فيه: 
«في ربيع عام 1985 تلقيت جائزة القدس. وقد قرأ الأب مارسيل دوبوا من طائفة الدومينكان، والأستاذ في جامعة القدس، الثناء عليّ بالإنجليزية مع لكنة فرنسية قوية؛ وقرأت بالفرنسية مع لكنة تشيكية قوية خطاب الشكر عالماً أنه سيؤلف الجزء الأخير من هذا الكتاب والنقطة الأخيرة لتأملاتي حول الرواية وأوروبا. لم يكن يسعني قراءته في جوٍّ أكثر أوروبية، وأكثر حرارة، وأكثر حميمية.«
وهو المقطع الذي يشير إلى المقال ذي المقطع «المحذوف»! 
لم ينتبه الرقيب السوري إلى هذا المقطع في بداية كتاب «فن الرواية» لأنه لم يجد فيه اسم «إسرائيل». لكن بوسع أي قارئ لترجمة الكتاب (ولو قرأه سليم البيك بالفعل لكان بوسعه هو الآخر) أن ينتبه إلى أن شيئاً ما قد حذف في المقال المشار إليه في نهاية المقدمة المذكورة. وأنه لو كان الحذف قراراً ذاتياً كما زعم اعتماداً على زعم حسن حميد لكنتُ قمت بحذف هذا المقطع أيضاً من مقدمة الكتاب. من الذي حذف إذن؟ من الواضح أن سليم البيك شأنه في ذلك شأن حسن حميد يعتبر لأسباب أجهلها تماماً أن الرقيب السوري بريء من ذلك تماماً (فقد قرأ في مقال هذا الأخير ما يفيد أن الرقابة لم تكن مسؤولة عن الحذف!) ومن ثم فمن الأسلم لهما اتهامي بما قام به هذا الرقيب. 
لكنَّ الأدهى من ذلك أن سليم البيك يصر على إبراز جهله أو سوء نيته أو كلاهما معاً حين يتحدث عن طبعة أخرى للكتاب مؤكداً اتهامه بحذفي للمقطع الذي قام (بعد اطلاعه على النص الفرنسي طبعاً!) بترجمته في مقاله. سوى أن السيد سليم البيك يتسرّع كثيراً مثل زميله الذي ينقل عنه دون أن يبذل أي جهد، حتى في تغطية جهله: فالمقطع الذي حذفه الرقيب السوري في الطبعة السورية عام 1999 موجود بكامله في كلٍّ من الطبعة الثانية لترجمتي التي صدرت في الدار البيضاء عام 2001 عن دار أفريقيا الشرق، والطبعة الثالثة التي صدرت في السنة ذاتها عن المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة هذه المرة، ثم في تلك التي صدرت مع الطبعة الرابعة ضمن كتاب اشتمل على كتب كونديرا الثلاثة في فن الرواية (فن الرواية، الوصايا المغدورة، الستار) وحمل عنوان «ثلاثية حول الرواية» عن المركز القومي للترجمة عام 2007. لا بل إن جهل سليم البيك بما يكتب عنه يصل به إلى أن يتحدث عن هذه الطبعة الأخيرة للكتب الثلاثة دون أن يكلف نفسه عناء التحقيق ولا التمحيص أو حتى الاطلاع على محتواها. فهو يكتب أن كتاب «فن الرواية الصادر عن «دار الأهالي» في دمشق بترجمة من بدر الدين عرودكي، ثمّ، مُزيداً عليه نصوصاً أخرى من كتابين منفصلين ونقديين آخرين لكونديرا، صدر للمترجم نفسه «ثلاثية حول الرواية» عن «المشروع القومي للترجمة». من الملاحظ أن أن السيد سليم البيك لم يطلع على محتوى الكتاب المشار إليه لأنه لا يتضمن كتاب فن الرواية وقد زدتُ عليه «نصوصاً أخرى من كتابيْن منفصليْن ونقديين آخرين لكونديرا» كما يزعم، بل يتضمن ثلاثة كتب منفصلة ذات عناوين مختلفة ترجمتها بكاملها ونشرتها ضمن كتاب واحد باقتراح من كونديرا نفسه كما أشرت في مقدمتي للترجمة. 
يترجم السيد سليم البيك المقطع «المحذوف» على النحو التالي:
«إن كانت الجائزة الأهم التي تمنحها إسرائيل مكرّسة للأدب العالمي، فلا يُعدّ ذلك صدفة، إنّما يعود لتراث طويل. إنّها الشخصيات اليهودية الرفيعة التي، بإبعادها عن أرضها الأصليّة وتعاليها على المشاعر القوميّة، أبدت دائماً حساسيّة استثنائية تجاه أوروبا ما فوق القوميّات، أوروبا المعرَّفة ليس كأراضٍ بل كثقافة. إن كان اليهود، حتى بعدما أُحبطوا بشكل تراجيدي من قبل أوروبا، قد بقوا مخلصين رغم ذلك لهذه العالميّة (الكوزموبوليتية) الأوروبية، فإنّ إسرائيل، مكانهم الصغير الذي وجدوه أخيراً، تبرز أمام عينيّ كالقلب الحقيقي لأوروبا، قلب غريب موضوع في ما بعد الأجساد. أستقبل اليوم بمشاعر جياشة هذه الجائزة التي تحمل اسم جيروسالم ودمغةَ هذه الروح الكبيرة العالميّة اليهودية».
وها هي ترجمتي التي تضمنتها طبعات فن الرواية كلها باستثناء الطبعة السورية:
«إذا كانت أهمّ جائزة تمنحها إسرائيل مخصصة للأدب العالمي فليس ذلك فيما يبدو لي وليد الصدفة بل نتيجة سنّة راسخة. إذ الواقع أن الشخصيّات اليهودية الكبرى التي نشأت بعيدة عن موطنها الأصلي في بيئة تتعالى على الأهواء القومية عبّرت دوماً عن حساسية استثنائية من أجل أوربا تتعالى على القوميات. أوربا يتمُّ تصوّرها لا كأرض بل كثقافة. وإذا كان اليهود قد ظلوا حتى بعد خيبتهم المأساوية من أوربا مخلصين لهذه الكوسموبوليتية الأوربية، فإنَّ إسرائيل، وطنهم الصغير الذي عثروا عليه أخيراً، تنبثق في نظري بوصفها قلب أوربا الحقيقي، قلبٌ غريبٌ وُضِعَ في ما وراء الجسد.»
لا أرى حاجة إلى أن أناقش سليم البيك في الطريقة التي اعتمدها لكتابة المقال كي يسوِّقه للقارئ: التعلق بالشماعة الإسرائيلية… ولن أناقشه في حبه أو كرهه لكونديرا، ولا في رضاه أو عدم رضاه عن احتفال الصحافة بكونديرا وكتاباته… ولا كذلك في حبه أو عدم حبه لرواية كونديرا الأخيرة… لكني، بمعزل عن ذلك كله، أرى ضرورة تذكيره بضرورة القراءة قبل الكتابة، وبضرورة التمحيص والتدقيق قبل الحكم، وبأهمية العناء في البحث والتوثيق قبل إصدار الأحكام على عواهنها. ولا بأس من أن يقرأ جيداً ما يُكتب قبل أن يسارع إلى التفسير أو التأويل. سيكفيه لو فعل عناء حمل وزر أخطاء الآخرين، وسيحميه من الاتهام بالجهل أو بسوء النية أو بكليهما معاً… لو أنه فعل… 
ذلك أنه لو فعل لما كتب ما كتبه، ولما أصدر الأحكام التي لم يملك بعد حتى المعارف التي كانت ستردّه عن إطلاقها كما فعل… لو فعل!

كاتب من سوريا

بدرالدين عرودكـي