الوكالة الوطنية للطيران المدني .. واصحب لكل ثنية جوٌابها

سبت, 2014-07-05 09:54

                                      [email protected]
                                                                                            المهندس محمد أبات الشيخ
 
 
متابعة لسلسلة المقالات التي كتبتها عن الوكالة الوطنية للطيران المدني - في السنوات الاخيرة - وملاحمها البطولية للتغلب على أوجه القصور التي أدت في سنة 2008 إلى تصنيف موريتانيا في الـ 25 دولة الأقل مطابقة والتزاما بالمعايير الدولية في مجال سلامة وأمن الطيران المدني والتي أدت إلى إدراج موريتانيا ضمن القائمة السوداء أوروبيا وفقا لقواعد اتفاقية شيكاغو للطيران المدني الدولي وملحقاتها.
أكتب هذه المرة عن نتائج التدقيق الذي خضعت له سلطة الطيران المدني الموريتانية للفترة من 28 يونيو وحتى 05 يوليو 2014 لأطلع الرأي العام على مستوى التقدم الحاصل سواء تعلق الأمر بالنتائج وبتحليلها أم بتأثيرها وتأثر العالم بها، بل وردود الأفعال محليا وإقليميا ودوليا دون ان انسى – ان شاء الله - معالجة الأسباب واستخلاص الدروس والرؤية المستقبلية لتمام الفائدة.
على كل حال لا بد من التذكير أولا بالوضعية الابتدائية وبتشخيصها ثم التعرض تباعا للوضعيات الانتقالية في المراحل المختلفة وصولا إلى التطور ثم التحول في المسار قبل الوصول إلى التعافي والإعمار في ضوء النتائج الملموسة اليوم.
انشأت الوكالة الوطنية للطيران المدني في 2004 كحل لمسلسل المشاكل التي لا نهاية لها فيما يتعلق بالطيران المدني عموما وبتقييد حركة الخطوط الجوية الموريتانية في أوروبا خصوصا،انشأت ANAC بناء على استشارة فنية لتكون بذلك الجهاز المختص المعني بتسوية تلك الصعوبات والمكلف بتنظيم وإدارة القطاع.
طبعا انشئت الوكالة في ظروف سيئة للغاية سواء تعلق الامر بمستوى الفساد المستشري في القطاع أم بضعف وانعدام كفاءة ومهنية القطاع عموما، وكذلك النقص الحاد في الكادر البشري الكفء والمؤهل للإطلاع بتلك المهام التي تتطلب مستوى معينا من الاستعداد والتخصص والتجربة، هذه اللبنات الأساسية المفقودة والتي ستلقي بظلالها فيما بعد وبشكل بارز على مسار النهوض والتطور في القطاع، بالإضافة لانعدام الاستعداد السياسي والنية الصادقة التي تمثل أهم الدعائم التي أدى فقدانها إلى خراب وانهيار منظومة قواعد ومعايير سلامة وأمن الطيران المدني في الجمهورية الاسلامية الموريتانية وتناقضها مع توصيات اتفاقية شيكاغو وملاحقها.
بالإضافة إلى هذا الوضع السيء للغاية أصلا فإن أحداث الحادي عشر من سبتمبر أبرزت تشددا دوليا كبيرا في مجال التقيد والالتزام بتلك المعايير والقواعد الدولية وعدم التسامح أو التهاون في تطبيقها، ومتابعة بعثات التدقيق لمطابقتها والتثبت من تنفيذها.
ما بين السنوات 2004 وحتى نهاية 2010 قامت الدولة الموريتانية في مواجهة هذه المشكلة بجملة من الاجراءات التي هي أقرب إلى التخبط والعبث منها إلى المقاربة والتسديد بسبب الارتجالية وعدم وضوح الرؤية وغياب بل وانعدام الاستعداد السياسي والنية الصادقة والفساد الذي أدى إلى جملة من التراكمات التي عصفت بوجود الخطوط الجوية الموريتانية لتكون أثرا بعد عين.
ولعل أبرز ملامح هذه الفترة هي تلك التعيينات المتلاحقة لإدارات عديدة لم ترق في أي مرة إلى الحد الأدنى للنهوض بمسؤوليات القطاع فضلا عن تسوية المشاكل الكبيرة المترتبة عنه وعليه والغريب في الامر أن أغلب تلك التعيينات جاءت من داخل القطاع مما يؤكد بشكل منطقي ما ذهبنا إليه من عدم الكفاءة والمهنية بل وحتى انعدام المسؤولية مما انعكس في مستويات متعددة من التلاعب واللامبالاة.
في هذه المرحلة المهينة والمشينة كانت موريتانيا ترزح تحت وطأة نتائج تدقيق 2008 الذي خضعت له من طرف منظمة الطيران المدني الدولي OACI والذي كانت نتائجه بشكل مجمل في حدود 13% فقط من مطابقة القواعد والمعايير الدولية لاتفاقية شيكاغو وملاحقها مما أدى بدوره إلى تعميق المشكلة وإجهاض تجربة الخطوط الفتية (المشتركة بين رجال اعمال موريتانيين وتونسيين و التي أنشئت بعد انهيار وتصفية الخطوط الجوية الموريتانية) بعد حظر استخدام الأجواء الاوروبية على الطيران الموريتاني لما يمثله من مخاطر على أمن وسلامة الطيران المدني. وكذلك ارتفاع مستويات المخاطر عموما وبشكل مباشر في التأمين والضمانات.
لتوقيع هذه الصفحة وطيها والقطيعة معها كان لا بد من توفر إرادة سياسية قوية وصادقة، كان لا بد من توفير كل ما يتطلبه الأمر من الاستعداد المادي والمعنوي وتسخيره وتسهيل وتذليل جميع العقبات النفسية والإدارية وخلق رؤية واضحة وشاملة تعتمد المنطق والعقل والتخطيط والتدبير المحكم والاستراتجي من خلال تحديد الأهداف والتصور الناجع المكتمل للوصول إليها، والبحث الجاد والحقيقي عن القدرات الادارية والقيادية التي يمكنها تصور وطرح هذه الاستراتيجية وتنفيذها ومتابعتها بشكل يضمن ديناميكية مستمرة من أجل تحقيق تلك الأهداف بشكل مؤسس ومضمون، طبعا على مراحل يفرضها تعقيد المشكلة من ناحية و من ناحية أخرى ملاءمة الحلول الدائمة والمتطورة وفق تطور النموذج وإكراهاته.
بدأت إذن رحلة البحث هذه والتي أدت في فترة الرئيس محمد ولد عبد العزيز وتحت إشراف الوزير الأول مولاي ولد محمد لغظف إلى تعيين إدارات لم تكن أي منها على مستوى التحدي، بحكم خواتم عملها وتجربتها التي لم تزد الطين إلا بلة، ربما لأن هذه المهمة المعقدة والحساسة في نفس الوقت تتطلب مؤهلات واستعدادا خاصين جدا، وهذا ما عبر لي عنه بصراحة تامة مدير سابق في الوكالة الوطنية للطيران المدني التقيته في دكار (يعمل في ASECNA الآن) حيث قال إنه بعد إعفاء المدير قبل الحالي من مهامه تم الاتصال به ولكنه اعتذر، هذه المهمة إذن لم تكن محفوفة بالورود ولا مرغوبة وكأن مجرد القبول بها هو في حد ذاته مجازفة كبيرة لا يقوى عليها ولا يتحمل ضغط إلحاح الحكومة في الحصول على النتائج المرجوة منها من لا تتوفر له الظروف المطلوبة من موارد وسلطة وحرية اتخاذ القرار، فكان لا بد من أن يستنهض الطلب ذلك المستنفر البطل.
في سنة 2011 تم تعيين مدير عام جديد، كان يتولى إدارة أهم قطاع في شركة الصناعة والمناجم SNIM القطاع 700 بريادة ونجاح تام، وكذلك تولى مهمة المفوض المساعد لمفوضية الاستثمار، وبين المهمتين اشتهر وعرف بتحقيق وتطبيق معايير الجودة ISO من خلال مكتبه للعديد من المؤسسات الوطنية، هو ببساطة مدقق من الطراز الأول، فائق الذكاء، سريع التعلم، حاضر البديهة، يعشق التحدي، ممارسا كواعب اللغات، واسع العلاقات، ذا الطلعة المهيبة والكاريزما الطاغية، لا يفتقر لحس الدعابة، مهيل ومجتهد ومواظب، يملك الرؤية، ويتحلى بالعزيمة، ويقارع بالحجة، ثم هو فوق كل ذلك وطني بامتياز، قل نظيره قدرة ومثابرة.
هذا الرجل انتهج طرقا جديدة مكنته من تحديد الاهداف المرحلية ضمن استراتيجية متكاملة للنهوض بهذا القطاع، مرة كنت في مكتب مدير سلطة الطيران المدني الغاني السيد ك. مرفي والذي عبر عن إعجابه وتقديره التام للسيد أبوبكر الصديق ولد محمد الحسن معتبرا أنه ظاهرة فريدة من نوعها وأنه ذخر لإفريقيا كلها وأضاف على الرغم من أنه مهندس معادن وأنني طيار وقبل ذلك مراقب جوي، فإنني أنحني إجلالا لقدراته وفهمه في طرح قضايانا في المحافل الاقليمية والدولية في مجال الطيران المدني بل وبرؤيته الشاملة والمتكاملة وقال إنه يحسد موريتانيا عليه حسب تعبيره. هذه الانطباعات وقفت شخصيا على الكثير منها من خلال مدير الطيران المدني التوغولي، فضلا عن رسائل الاعجاب والتقدير من مختلف الفاعلين من أوروبيين وعرب وأفارقة ومن المنظمات الاقليمية والدولية، بل ووقفت عليها من خلال المشغلين ومقدمي الخدمات الوطنيين والإقليميين.
نعم لقد استطاع الرجل في ظرف وجيز تحقيق الهدف الأول الذي عنونه بحصول موريتانيا على المرتبة السابعة إفريقيا وذلك من خلال نتائج التدقيق الأول والثاني في 2012 والذي كانت نتائجه كما يلي  73.94%  من الالتزام بالقواعد والمعايير الدولية لاتفاقية شيكاغو وملاحقها، مما شكل الحجة البالغة والدليل القاطع الذي أرغم الأوروبيين على مراجعة قرارهم وتعديله فيما يتعلق بسلامة وأمن الطيران الموريتاني ولأن النتيجة كانت مفاجئة تماما ومذهلة فإن الاتحاد الأوروبي قرر بعث فريقه للتدقيق في تلك النتائج، فكانت الضربة القاضية حيث قرر فريق التدقيق الأوروبي بعد المعاينة والتحقيق أن موريتانيا حققت نتيجة أكبر من ذلك وفق المعايير والقواعد الاوروبية ليتم مباشرة رفع الحظر الجوي عن الطيران الموريتاني في الأجواء الأوربية وشطب موريتانيا من القائمة السوداء دون قيد ولا شرط وبإجماع البرلمان الأوروبي في بروكسل 05 نفمبر 2012 . الأجمل في الأمر أن موريتانيا لم تحقق المرتبة السابعة إفريقيا بل تجاوزتها لتتربع على المرتبة الرابعة بعد مصر وجنوب افريقيا وغامبيا.
حافظت موريتانيا على هذه المرتبة حتى نهاية العام 2013 لتتأخر بمرتبة واحدة (الخامسة افريقيا) لصالح شقيقتها كينيا، ولكنها في الحقيقة كانت تطبق بشكل تام حركة (الكبش) الذي يتأخر ليأخذ المسافة الضرورية لينطح بقوة وهذا بالفعل ما حدث في تدقيق 2014.
بعد التدقيقات في 2012 للـ ICAO كان حضور موريتانيا متميزا إقليميا ودوليا حيث حصلت موريتانيا على لقب SUPERSTAR AFRICA من قبل الإيكاو وكذلك لقب السيد ابوبكر الصديق في أروقة منظمات الطيران المدني الدولية والإقليمية، كذلك اعتبرت السيدة نانسي غراهام مديرة الطيران المدني الدولي في مقابلة مع التلفزيون الكندي أن موريتانيا نموذج فريد وتجربة رائدة تنبغي الاستفادة منها ليس فقط لإفريقيا وإنما للعالم أجمع، وكذلك عبر السيد ريموند بنجامين الأمين العام لمنظمة الطيران المدني الدولي والذي زار موريتانيا مؤخرا كتعبير عن اعجابه وتقديره بجهود الجمهورية الاسلامية الموريتانية والوقت القياسي الذي أنجزت فيه ذلك، وكذلك عبرت المكاتب الاقليمية وسلطات الطيران المدني الوطنية لأغلب الدول في العالم عبر رسائلها إلى موريتانيا ومواقعها ومجلاتها، كما ضجت وسائل الإعلام الدولية والإقليمية بصور ومقابلات السيد ابوبكر الصديق ولد محمد الحسن، لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تجاوزه كثيرا لتمد موريتانيا يد المساعدة الفنية والمنهجية لعديد الدول الشقيقة والصديقة مهما تناءت وبعدت (جزر القمر، السودان، مدغشقر، غانا،...)، ثم إن موريتانيا تم انتخابها من خلال ابوبكر الصديق ولد محمد الحسن كرئيس فريق السلامة لإفريقيا والمحيط الهندي RASG-AFI . كما تم ولأول مرة في تاريخ موريتانيا تمثيلها بشكل فعال ويحسب له حسابه في المحافل الدولية والاقليمية (ASECNA )، فلم تعد موريتانيا كما يقول غيلان ذو الرمة
وما انتظرت غيابها في عظيمة ​​وما استؤمرت في جل أمر شهودها.
بعد النتائج الباهرة في تدقيقات 2012 وبعد الصورة المشرقة والجميلة التي ظهرت بها موريتانيا، تجاوز الرجل زخم النجاح الكبير ليواصل العمل على تحقيق أهدافه التي رسم بعناية في استراتيجيته المحكمة، كان الموعد هذه المرة مع هدف تحقيق نسبة قصور لا تتجاوز 15% LEI وهي التي يتنزل تدقيق 2014 على اختبار مدى تحقيقها.
في تدقيق 2014 والذي أعلنت نتائجه الأولية يوم الخميس الموافق 03 يوليو 2014 فإنه من الواضح جدا أن الرجل قد تجاوز الهدف المرسوم حيث تمت مطابقة المعايير بنسبة 83.06% من طرف فريق التدقيق، إلا أن الفريق يحمل في حقائبه الكثير من الأدلة الأخرى التي يحتاج إلى مراجعتها قبل البت في الحكم عليها وإذا فرضنا جدلا أنه لم يقبل منها سوى 1% فإن موريتانيا ستكون الثانية إفريقيا متجاوزة جنوب إفريقيا وبقية الدول الإفريقية ما عدى مصر، ولكن النسبة عمليا ستكون أكبر من ذلك إذ على الأقل سيتم اعتماد 70% من تلك الأدلة مما يعني تحقيق موريتانيا نسبة قصور تقارب 10% في التقرير النهائي والذي يعلن النتائج النهائية في غضون 3 أشهر من الآن إن شاء الله.
وقد أظهرت النتائج التفصيلية المقارنة بين تدقيقي 2012 و 2014 تقدما بلغ في رقابة مفتشي وكالة الطيران المدني الموريتانية (ANAC) لخدمات الملاحة الجوية نسبة 25% حيث انتقل من 67,19 إلى 91,67. 
بينما وصل التقدم في مجال مراقبة الوكالة لسلامة المطارات نسبة 16% حيث انتقلت من 57,35 في 2012 إلى 73,53 في التدقيق الحالي 2014.
كنت قد كتبت مقالين يمكن الرجوع إليهما لتقصي بعض الأسباب المباشرة وغير المباشرة وكذلك الإجراءات والخطوات التي من خلالها حققت موريتانيا هذه النتائج، يمكن الرجوع إليهما من خلال محرك البحث Google تحت عنوان ( الطيران المدني يحقق المستحيل الآن) و(مَنْ رفع الحظر عن موريتانيا ؟.. ومن يجني الثمار ؟) وكذلك على بلوار في حلقة برنامج صحرا توك مع زائد.
أيضا ولتمام الفائدة وخصوصا للباحثين والمهتمين أحب أن أسوق بعض الأرقام لتساعد في التحليل والاختبار والتي يمكن الاطلاع عليها من خلال موقع منظمة الطيران المدني الدولي على الرابط ;
https://soa.icao.int/CMAOnline/dbStateCurrentStatusCompare.aspx
قبل تدقيق ICAO في سنة 2012
LEG 55.00% ; ORG 45.45% ; PEL 46.25% ; OPS 39.02% ;
AIR 44.76% ; AIG 18.56% ; ANS 11.86% ; AGA 40.29%
بعد تدقيق ICAO في سنة 2012
LEG 78.95% ; ORG 81.82% ; PEL 87.01% ; OPS 77.50% ;
AIR 83.65% ; AIG 83.51% ; ANS 67.19% ; AGA 57.35%
أي تحقيق نسبة نجاح 73.94% Current overall Effective Implementation
بعد تدقيق ICAO في سنة 2014 (النتائج الأولية)
ORG 100% ; ANS 91.67% ; AGA 73.53%
أي تحقيق نسبة نجاح 83.06% Current overall Effective Implementation
في الختام لا يفوتني أن أهنئ الشعب الموريتاني الغيور على وطنه بهذه المناسبة الجميلة وبهذه المرتبة العالية ومن خلاله أتقدم بالشكر والتقدير لكل العاملين في الوكالة الوطنية للطيران المدني وعلى رأسهم الرجل المناسب في المكان المناسب أبوبكر الصديق ولد محمد الحسن.