بقلم: عبد الفتاح ولد اعبيدن المدير الناشر ورئيس تحرير صحيفة "الأقصى"
لم يعد سرا أن النظام القائم راغب في الحوار مع المعارضة بمختلف مكوناتها، لكن السؤال المثير هل هذا الحوار جدي مثمر توافقي، أم مجرد محاولة للالتفاف على مطالب الشارع والمعارضة، سبيلا لتكريس نظام العسكر والغبن في مجال تسيير المال العمومي.
فما يريده أغلب المعترضين هو تحييد المؤسسة العسكرية عن الشأن السياسي العمومي، وإبقائها لدورها الأمني والجمهوري الدستوري المعروف.
وكذلك إعادة بناء الدولة على أساس القانون والمستند الإسلامي الجامع، بعيدا عن الغبن وأحادية النفع من المال العمومي ومختلف صنوف الحيف والظلم.
أما إذا كان الحوار مكرسا لولد عبد العزيز ومتيحا الفرصة لترشح رموز العسكر والإنقلابيين منهم بوجه خاص، بعد أن يخلعوا شكليا بزتهم العسكرية، دون النأي عن مضمون الحكم العسكري.
فهذا الحوار -إن جاء على هذا المنحى- قد لا يشكل حلا جذريا، وإن مثل في نظر البعض نصف حلول أو حلول مؤقتة المفعول.
فهل سيقبل العسكر الخروج من دفة الحكم والترشح، والتأثير على كرسي الرئاسة، بطريقة أو بأخرى.
أم ستظل الأمور على سابق عهدها من النفوذ العسكري والقبلي "كلما جاء حاكم عسكري قرب أهله ثم الذين يلونهم!".
ويبقى السؤال الملح المحير، ما الذي دفع ولد عبد العزيز إلى الحوار.
أهو تمهيد للخروج الآمن، حتى لا تسلب ثروته الكبيرة غير الشرعية في أغلبها، وحتى لا يحاكم أو يساءل.
أم لأسباب أخرى غير تلك، مثل محاولة خرق الدستور لفتح مجال أوسع للمزيد من الحكم واحتقار الشأن العمومي الموريتاني والاستبداد به، على مستواه وعلى مستوى مقربيه، السياسيين والعائليين على السواء.
إن السبب مجهول، وسيبقى في حيز التخمين، وقد يكون صحيا بحتا، بعد حادثة 13 اكتوبر2012 الغامضة بامتياز، والتي تتراوح في التأثير، بين الصحة الظاهرة وتكهنات الانعكاسات الخفية والأثر العميق.
وبغض النظر عن أسباب ودوافع هذا الحوار لدى ولد عبد العزيز، فإن مؤشرات جدية أكبر من الحوار السابق، أوان الانتخابات المنصرمة البرلمانية والرئاسية، لا تخفي، وإن لم تعطي اطمئنانا حقيقيا لدى المهتمين بهذا الحوار.
قد لا تقبل المعارضة بسهولة خرق الدستور، ليصبح الترشح الثالث ممكنا، وإن بطريقة غير مباشرة، عبر ربح ما تم من العهدة الرئاسية الحالية، مع السماح له بالترشح للرئاسيات المرتقبة، على أن يسمح أيضا للشيخين بالترشح، عبر المساس الجزئي بمادة عمر المترشح!.
مبايعات غير مستبعدة، قد لا تتجاوز هذا القدر، إن حصلت، وقد تفجر مصاعب التفاهم وحواجزه المتوقعة بقوة، الفرصة الحوارية المتاحة والمرتقبة، في الأفق القريب من الأسابيع والأشهر القادمة، ولو كان ولد عبد العزيز جديا في هذا الحوار -لسبب ما- ولو لم يكتشف على وجه التحديد واليقين.
باب واسع من التخمين والتكهن، قد يدفعنا للتفكير، في عدة سيناريوهات، وقد يمنع السياسيين الكبار من النوم، تفكيرا وتوقعا للمآلات المنتظرة الغامضة المحيرة.
إن نخبة موريتانيا المسالمة تتوق إلى تفاهم يبعد غير المدنيين عن دفة الحكم، أما من يحكم بعد ذلك فلا عبرة به، ما دام في حيز القانون الإنتخابي ومكرسا للتناوب، وفاتحا المجال لحكم شفاف عادل إن شاء الله.
فمتى نعبر قنطرة الأزمة الخانقة المزمنة المرهقة إلى ضفة التفاهم والتشارك والتعايش الإيجابي البناء؟.
إن إقامة لعبة انتخابية مستقيمة وفتح الميدان العمومي للجميع، قد يخفف يوما من عب
ء
السياسة لصالح التنمية، ويعزز دولة القانون، المركزة لجهد التنمية والرافعة والمحسنة لمستوى العيش والصحة والتعليم وغيره.
أما ما دمنا نتخبط في الأحكام العسكرية والقبلية الضيقة، فقد لا يكون وضعنا مختلفا كثيرا عن وضع إحتلالي، يعطي البعض سائر المنافع على حساب البعض الآخر، المغبون المركون في الزاوية.
وضع قد يفرض التشبث بعري المعارضة والمناوأة، حتى لا تضيع الحقوق والحرمات هدرا وسدى إلى غير رجعة، لا قدر الله.
إن رفع مستوى منسوب هذه المعارضة السلمية المسؤولية قد يعزز فرص الخروج من الوضع الحالي المتأزم، عبر حوار جاد ربما.
وإن الحال السياسي السائدة عندنا معشر العرب والأفارقة محير.
فرد واحد، وجناح فحسب، على حساب مؤسسة عسكرية بكاملها، يحرص على الإفساد على حساب الجميع، دون سبب سوى الطمع الزائد المرضي؟؟؟.
أليس من الجدير بولد عبد العزيز وجماعته من النفعيين من مختلف الصفوف، أن يراجعوا أنفسهم، ويتقوا ربهم في هذا الشعب المقهور المظلوم، عسى أن ينبلج فجر البناء والمحاسبة المعتدلة، بعيدا تصفية الحسابات الموغلة في الانتقام وإشفاء الغليل.
لقد حان ربما أوان العودة إلى الصواب، أم أن حصان الفساد والاستبداد لم يمل بعد من مسابقة الزمن وسائر الفرقاء..
موريتانيا دفعت الثمن بشكل كبير جدا، وهاهي أكبر شركة معدنية فيها على أعتاب الانهيار والتفكك -لا قدر الله- تحت ضغط انخفاض السعر الدولي للحديد، وتحت كذلك ضغط مطالب العمال، والتعليم
لا يكاد تتوقف إضراباته ومشاكله، وأوضاع الناس المعيشية والأمنية في منحدر مهدد، والحالة السياسية في قمة التباعد وعدم التعاطي .
فلا مفر من حوار جاد فعلا يوما ما، لعل وعسى أن يفضي بنا إلى مسلك آمن، لتوصيل سفينة الوطن إلى شاطئ الأمان.
قد تكون النتيجة تنازلات متبادلة من كلا الطرفين دون أن نصل إلى غاية منع العسكر من الترشح والبقاء في عمق العملية السياسية، وقد يسمي البعض هذا مخرجا مشرفا نسبيا، ولكنه في الحقيقة ليس كذلك.
فبعض المطالب الأولوية، لابد من تحقيقها بصورة حاسمة، لا لبس فيها.
وإلا فإن الأزمة لن نفلح في هجر ساحتها الرئيسية وسببها المركزي، ألا وهو الحكم العسكري الإنقلابي، الذي كلف قوما لا يحسنون السياسة بتسيير بشأنها المدني الصرف.
وقد لا يقبلون بسهولة الخروج من مسرحها الجذاب الفاتن.
فهل يتعقل الجميع، من جهة بترك العسكر للسياسة، ومن جهة أخرى بعدم فتح المدنيين للكثير من الملفات الشائكة.
وعموما قد لا يكون عسكرنا قد وصل إلى هذا المستوى من التجرد، وأما المدنيون فلاشك أنهم يقبلون التسامح أو أغلبهم على الأصح.
وأما إذا أصر الإنقلابيون على البقاء دون تعقل، فإن الأيام كفيلة بإبعاد المعتدين عن ما لا يحق لهم، من الإستئثار بشأننا العام ومنافعه المختلفة، المعنوية والمادية.
فهل ننتهز هذه الفرصة الحوارية المروج لها، والتي قد تكون الأخيرة، قبل أن ندخل في نفق مظلم، قد لا نخرج منه بخسائر محدودة. وهل يدرك العسكر أن "سيبتهم" المنطلقة منذ العاشر يوليو 1978 وإلى اليوم، آن لها أن تتوقف طواعية وسلميا.
وإلا فإن الشعب إن أراد الانعتاق والتحرر من ربقة الاستعباد السياسي، فلا بد للقيد أن ينكسر بإذن الله.
وإذا أردنا التلخيص في شأن الدوافع لدعوته للحوار، وقلنا إيجازا بأنه من المتوقع أن يكون للبحث عن مخرج آمن من ورطة الحكم، خصوصا إثر سوء تسيير فاحش، سمح له وبعض مقربيه، -عائليا- بثروة مثيرة، مع وضع ملفه الصحفي في الاعتبار بصورة خاصة، فإن هذا كله، -إن إفترضنا واقعيته- لا يكفي للثقة في مبادرات ولد عبد العزيز، لأنه متبدل المزاج والأطوار، وشديد الحرص على السلطة، ككل عسكري -بوجه خاص- جاء عن طريق انقلاب.
ولعله مما يزيد الصورة جلاء كون هذا الحوار المحتمل فحسب، سيجري تحت وقع واقع صعب بامتياز.
فـ"تازيازت" أعربت عن عدم قدرتها على فتح المصنع الثاني لإنتاج الذهب، نظرا لضعف سعر الذهب عالميا، واسنيم تعيش منذ أسابيع تحت رحمة إضراب العمال والاحتجاجات المتواصلة، مع هبوط مماثل لسعر الحديد دوليا، ومنذ مدة، والنظام القائم لم يخفض سعر الوقود محليا رغم هبوط أسعار النفط عالميا أيضا، مع ضعف القوة الشرائية لدى أغلب المواطنين، بسبب ضعف الدخل، واتساع رقعة الفقر، هذا إلى جانب تفاقم حالات الاغتصاب والانفلات الأمني، خصوصا ليلا في المناطق الشعبية، ومع استمرار أزمة اعتقال بعض قيادات "إيرا".
كل هذا المشهد المعقد، قد يكون معوقا للحوار، ومعمقا للأزمة القائمة، من كافة الأوجه السياسية والاقتصادية والإجتماعية وغيرها.
هذا مع خبر عن احتمال نفط بحري معتبر، قد لا يشجع ولد عبد العزيز على الذهاب هو والمافيا المصاحبة له، بسبب الطمع.
مما قد يجعل الحوار مجرد ملهاة وخديعة على الأرجح، ومحاولة أخرى للالتفاف على الأصوات المعارضة ببساطة.