ثمة مسافات شاسعة بين مفكري وفلاسفة القرنين الأول والثاني للهجرة وبين أعلام الفكر والأدب والفلسفة الذين يملأون فضاء العربية الآن . ليست مسافات زمنية وحسب، إنما مسافات على مقاييس الجسارة والجرأة والإطلاق اللامتناهي لقدرات العقل.
تستحق المسألة إعمال الذاكرة والرجوع إلى الأعوام والعقود التي أعقبت انتهاء الخلافة الراشدية، حيث مارس العقل تنكيلا بالمسلمات وإلغاء للتغليب المتعسف للغيبي على المحسوس، وغدت كل الظواهر والآراء والنصوص موضع شك وتمحيص ومثار جدل، وسادت سلطة العقل إلى حد ظهور المعتزلة والمرجئة والجهمية والأباضية وسواها من الفرق، التي فُسرت أفكارها الجريئة على أنها خروج على المألوف والمتداول، واقتراب من حواف الزندقة.
في تلك الأزمان كان التفكير المعلن مجازفة قد تفضي إلى الموت، وكانت التضحية بالحياة لقاء فكرة أو رأي أو موقف أمرا ممكنا، لأن الأفكار كانت غاية لا وسيلة لتحقيق مكاسب هنا او هناك، أما هذه الأيام فإن التضحية بقطرة دم أو لحظة استقرار، تحتاج إلى حسابات دقيقة واجتماعات مطولة مع النفس التي تحض على إيثار السلامة والإقلاع عن الأفكار غير المأنوسة حتى لو تضمنت إنقاذ العالم من دمار محقق.
في الجلسات الخاصة التي تجمع المثقفين ينطلق العقل ويتجول في الممرات ويتخطى الحواجز والممنوعات، فيتجرأ الجالسون على البوح والتحرر من قيود الحظر وشباك الجزع، تحت جنح الأمان الذي يستمدونه من تجانس الجلساء وثقتهم ببعضهم بعضا، فيتحدثون في السياسة والدين والثقافة والتقاليد وتهتّك المعايير وفساد الحاضر، يتفقون على أن المفاهيم تحتاج إلى إعادة نظر جذرية لأسباب تتعلق بتغير ركائزها وتقادم ثوابتها، ويقرون بأن جمودنا الفكري واحد من أهم أسباب تخلفنا وتراجع أدائنا الثقافي والحضاري.
مثقفو هذه الأيام يتداولون في جلساتهم أفكارا أكثر صراحة مما يدرج على ألسنتهم وتخطه أقلامهم في العلن، ويتبنون آراء تنعكس أحيانا على سلوكهم، لكنهم لا يجرؤون على إشهارها خوفا على أنفسهم من مصائر مجهولة قد تودي بوهم استقرارهم، فكيف يمكن إجراء مقارنة بين مثقفي ومفكري اليوم وبين نظرائهم الذين فجروا أخطر القضايا قبل أربعة عشر قرنا؟ هل يمكن لمثقفي هذه الأيام أن يكاشفوا أنفسهم أو يسمحوا لها بالتفاوض مع الجسارة التي تتيح لهم فرص الخروج من باطنيتهم والتطهر من رذائل الحسابات وأدران طمس الحقائق، حتى لو كانت بمرارة العلقم؟ وكيف يمكنهم أن يفعلوا ذلك إذا كانت أقوالهم وكتاباتهم تخضع لرقابة من نوع جديد، رقابة التأويل والتفسير الذي قد يودي بالمثقف إلى السجون لمجرد ورود عبارة أو جملة او بيت شعر (مشكوك في توافقه مع آراء الفقهاء) في كتابه؟
قبل تسعة قرون، لم يتردد الفيلسوف المتكلم ابن رشد حين نفث من صميم ولائه للحقيقة، بأن النص إذا تعارض مع المنطق فإن الاحتكام يجب أن يكون للعقل لا للنص، فمن هو المفكر المعاصر الذي يجرؤ على الولاء للحقيقة التي يعتقد بها والإفصاح عنها؟ وإذا توفر هذا المفكر أو الفيلسوف أو المثقف، فما الذي يمكن أن يحدث له إذا أفصح عن حقيقة أفكاره في زمن ولاية الوعاظ والفقهاء؟
كاتب أردني
جمال ناجي