بقلم:عبد الصمد ولد أمبارك
التنمية المحلية ،عملية مجتمعية متكاملة و شاملة ،تعتمد التدبير الواعي و الإرادة التطبيقية ، من خلال الخطط والبرامج الهادفة إلى تحسين مستوى الظروف العامة للسكان ، عن طريق مقاربة تشاركية مندمجة لمختلف الأنشطة القطاعية، قصد تحقيق الرفاهية الشاملة بنظرة مجتمعية متكاملة أفقيا، لتنمية الجماعات المحلية. فهي عملية مركبة وحركة ديناميكية تتوخى تحقيق المتطلبات الاجتماعية وإشباع الحاجات الأساسية للساكنة المحلية.
فالتنمية المحلية مسلسل، من خلاله تشارك المجموعة السكانية في تهيئة محيطها البيئي الخاص، سبيلا إلى تطوير المستوى المعيشي للعناصر السكنية المنطوية تحت لوائها، وذلك بالتفاعل الإيجابي مع مختلف الأنشطة المدرة بالمصلحة والنفع العام على الحيز الترابي.فهي العمليات التي بمقتضاها توجه الجهود لكل من الأهالي و الحكومة ،بتحسين الأحوال الإقتصادية و الإجتماعية و الثقافية للمجتمعات المحلية،لمساعدتها علي الإندماج الكلي في حياة الأمم و الإسهام في تقدمها بالأفضل الممكن،بإعتبار التنمية عنصر أساسي للإستقرار و التطور الإنساني و الإجتماعي.
ظهر مفهوم التنمية المحلية بعد ازدياد الاهتمام بالمجتمعات المحلية، لكونها وسيلة لتحقيق التنمية الشاملة على المستوى القطري، لأن الجهود الذاتية والمشاركة الشعبية لا تقل أهمية عن الجهود الحكومية في تحقيق التنمية، عبر مساهمة السكان في وضع وتنفيذ مشاريع التنمية، مما يستوجب تضافر الجهود المحلية الذاتية والجهود الحكومية، لتحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمعات المحلية وإدماجها في التنمية المستديمة الشاملة للقطر ككل.
فالمشارك الشعبية في جهود التنمية المحلية تقود إلى مشاركة السكان في جميع الجهود المبذولة لتحسين مستوى معيشتهم، مع توفير مختلف الخدمات الاجتماعية ومشروعات التنمية المحلية، بأسلوب يشجع الاعتماد على النفس ومشاركة الدولة في توجهاتها السياسية، الهادفة إلى خلق تنمية اقتصادية متكاملة في البلد، عبر مختلف الميكانيزمات والآليات المتاحة، بما فيها وسائل المجتمع المدني الواعي واليقظ بالدور المنوط به في عملية البناء الوطني.
لقد ارتبطت التنمية المحلية بعدة مقاربات تشاركيه ، بالاعتماد على المبادرات المحلية باعتبارها المحرك الرئيسي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، من خلال العمليات الأولية في شكل مشاريع الاستصلاح الترابي، لأن التنمية المحلية تواجه تحديات أساسية تتمثل في الإجابة على حاجيات السكان المحليين، التي تقف موقفا إيجابيا ومسؤول ، لضمان تنمية اقتصادية واجتماعية لعموم الحيز الترابي، في إطار محاربة الفقر وسد الفوارق داخل الحيز الإقليمي الممنوح لكل جماعة ضمن الإطار الإداري اللامركزي ، ممثلا في الجماعات المحلية والمجتمع المدني باعتبارهما رهانا أساسيا لتفعيل مقومات التنمية المحلية.
منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي، بادرت عدة دول عربية و إفريقية إلى الارتماء في مسلسل اللامركزية الإدارية والسياسية، من خلال تنازل الدولة مقابل صعود الديناميكية المحلية، مما غير الوضع العام للتنمية المحلية وقاد إلى البحث عن التوفيق بين مشاريع التنمية المحلية واللامركزية ،من خلال وضعها قيد التنفيذ لبرامج التنمية الجهوية للتجمعات المحلية، ومحاولة تطوير أداء الشراكة المحلية المدعمة والموجهة من قبل السلطة المركزية.
فالتداخل على الصعيد المؤسسي للتجمعات المحلية ،يسمح وبصفة أكثر تلاءم، بين إجراءات المشاريع وتقييم الحاجيات المنوطة بالساكنة المحلية، المراد استفادتها من العملية التنموية المنشودة بطريقة أكثر نجاعة ، من ناحية الأنشطة المدرة للنفع على المجموعات السكانية، قصد إحداث توازن اقتصادي مرضي، يتماشى والمخطط العام للسياسة التنموية في البلد بصفة عامة والسياسة السكانية بصفة خاصة.
فاللامركزية نظام حكم مؤسسي ونظرة متوازنة للتنمية الترابية، الغرض الأساسي منها هو ضمان التنمية الإقليمية والاندماج الكلي، في إطار يوائم بين التدخلات المحلية طبقا للمهام الموكلة، لإعتماد اللامركزية الإدارية كطريقة تنظيم إداري للتنمية المحلية، تتكامل فيها الأعمال فيما بينها وتنفذ بطريقة منسقة ومتزامنة.
إن تطور النهج اللامركزي لا يتوقف فقط على منح الإمكانيات المادية والبشرية للهيئات المحلية وصياغة نصوص قانونية متطورة، تواكب حاجيات وتطلعات الساكنة المحلية، بل يتوقف بالدرجة الأولى على وجود الإرادة السياسية الصادقة لتطبيق اللامركزية، كخيار سياسي واجتماعي،وعلى تغيير العلاقة التي تربط بين ممثلي السلطة المركزية والهيئات المنتخبة محليا وتطويرها إلى علاقة تعاون وتكامل ، وتطوير هذه العلاقة لا يمكن أن يتم إلا إذا كان هناك جهاز قضائي قوي، مستقل ومحايد، مكلف بمراقبة مشروعية أعمال الهيئات المحلية في دائرة اختصاصاتها الإدارية والمالية.
على غرار مجمل البلدان النامية، اعتمدت الأنظمة السياسية في موريتانيا على مدار الخمسة عقود الماضية، التي عقبت مرحلة الاستقلال وإقامة الدولة الوطنية، أدوات موجهة نحو اللامركزية، بعد ما فشلت في مرحلة أولية، بتطبيق منظومة المجموعات الإقليمية ونظام الجهة الموسع والمدعم، عن طريق توجيه السياسات الاقتصادية والاجتماعية، قصد تطوير أداء القطاعات الجهوية وسد الفوارق الاجتماعية، مع خلق تنمية متوازنة تتماشى مع القدرات المحلية لكل ولاية، حسب مخزونها وكذا ما تتوفر عليه من مؤهلات، مناطة بتوفير فرص للعمل، انطلاقا من القاعدة الإنتاجية الجهوية وما تنطوي عليه من ثروات طبيعية واصطناعية، تعتبر رصيدا اقتصاديا قابل للتطوير عند استغلاله بصفة معقلنة ، يضمن قيام تنمية اقتصادية حقيقية ، على الرغم من المعوقات التي تظهر هنا وهناك، نتيجة الخلل البنيوي في قيام التقسيم الإداري الأصلي للبلد،ناهيك عن الوصاية المقيدة لصلاحيات المجالس البلدية التي أعاقت تجربة انتخاب المجالس المحلية، كما أثرت سلبا علي النتائج المتوخات من الحكامة المحلية .
لقد عرف المجتمع الموريتاني منذ مطلع الستينات تقلبات عميقة على مستوى طريقة حياة السكان، المكون من 70% من البدو سنة 1965 م والتي لم تعد سوى 6% من البدو الرحل سنة 2000 م ، مع كل ما يتطلع له ذلك من النتائج على الهياكل العائلية وكذلك على مستوى طريقة الإنتاج والاستهلاك. من ضمن العوامل الموضحة لهذه التقلبات، نجد عامل الجفاف الذي قضى على قاعدة الاقتصاد الريفي وشجع التحضر للبدو وهجرة سكان الريف نحو المراكز الحضرية بسرعة فاقت التقديرات، وجعلت السكان الرحل في وقت قياسي داخل الوسط المستقر الحضري، ضمن هياكل غير مؤهلة لاستقطاب هذه الكثافة السكانية، بالإضافة إلى ظهور الصناعات الاستخراجية في كبريات المدن، مع تمركز مصالح الدولة الفتية في الوسط الحضري لعواصم الولايات وداخل الدوائر المركزية لصنع القرار.
في ظل هذه التقلبات المتباينة، بادرت السلطات الموريتانية إلى وضع هياكل سياسية واقتصادية تتماشى ومؤسسات الاستقلال الحديث العهد، وأقدمت على تأمين بعض المنشآت وعقد عدة عقود إنتاج، قصد استغلال مختلف الثروات الوطنية، بطريقة تتماشى والطبيعة السوسيوا اقتصادية لبلد مترامي الأطراف على مساحة تزيد على 1.025.000 كلم2 ، وسط مناخ صحراوي جاف، بعد استشراق أولى اللبنات الأساسية لقيام بنية تحتية مواتية، مع توفير الهياكل الضرورية لمتطلبات الخدمات الاجتماعية الأساسية من صحة وتعليم وبنية اقتصادية ضرورية، كالمؤسسات المالية مع النهوض بالقطاع الخاص ودمجه في معادلة وطنية للتكامل الاقتصادي الكلي، وذلك بالتوجه الإرادي نحو تطوير الشراكة بين القطاعين العام والخاص في تنفيذ مشاريع الاستثمار وما تقتضيه هذه السياسة من وضع إطار مؤسسي ملائم لجذب الاستثمارات مع ضمان مناخ ملائم للاستثمار على المدى الطويل.علي الرغم أن الإدارة الموريتانية لم تكن وليدة مطلب جماهيري أو إرادة وطنية حرة،و لم تكن نتاجا لتطور نوعي في النظم التقليدية التي كانت سائدة ،بل كانت من صنع المستعمر كإرث تاريخي لوضع سياسي قائم علي غرار مختلف البلدان النامية.
لقد عرفت البلاد عدة إصلاحات اقتصادية ،جاء في مقدمتها برنامج التقويم الهيكلي سنة 1985 م علي مدي 15 سنة، مكن من استقرار إطار الاقتصاد الكلي ،تحقيق معدل نمو مستديم ،التحكم في التضخم الاقتصادي في اقل من 5% ،مساعدة الدولة في تعزيز ثقتها لدي شركائها في التنمية،بالإضافة للمرد ودية الاجتماعية .تواصلت هذه الجهود سنة 1990 م ببرنامج صيانة المكتسبات الاقتصادية الذي توج سنة 1999-2000 م بوضع وثيقة إطار السياسة الاقتصادية ،الذي نتج عنه الإطار الاستراتيجي لمحاربة الفقر سنة 2001 م .
زيادة على الإصلاحات الاقتصادية ودعم التوجه الامركزي السياسي و الإداري، أصبح رهان المجتمع المدني المحلي، كقوة اقتراح وصوت احتجاجي في حالة حدوث انزلا قات، يفرض نفسه من ضمن بدائل المقاربة التشاركية للتنمية المحلية، بل إنه المخاطب الطبيعي والمفترض في مسلسل بلورة مختلف حاجيات المجتمع وذلك عبر التشاور والمساءلة.
يعتبر بروز المجتمع المدني بموريتانيا، أحد أهم التحولات الأساسية التي رافقت الانفتاح الديمقراطي مطلع التسعينات، حيث عرف البلد نسيج جمعوي كبير، يشكل إحدى الأركان الأساسية ضمن جهود حركة المجتمع المدني، كما أصبح يعول عليه كثيرا في قيادة المسيرة التنموية في البلاد، وذلك جنبا إلى جنب مع جهود الدولة وباقي القطاعات الأخرى وخاصة القطاع الخاص.
لقد باتت هذه التجمعات تضطلع بدور ريادي، لما لها من أهمية في تنفيذ العديد من المخططات التنموية التي تمس جميع مناحي الحياة، بدءا بالدفاع عن الحقوق الأساسية للسكان المحليين وصولا إلى التنمية البشرية المنشودة وتحقيق الرفاه والعيش الكريم للمواطنين.لقد أصبح المجتمع المدني الجهة المفضلة للحكومات والمنظمات الدولية ،كما أصبح المخاطب بالنسبة للجهات المانحة للمساعدات والممولة للبرامج التنموية، لأنه يستجيب لحاجات ومتطلبات المواطنين، يعمل على تأطيرهم داخل المجموعة الواحدة في إطار مقاربة تشاركية تشكل العمود الفقري للتنمية المحلية المستديمة ،خاصة منها الحكم المحلي،مما يفرض إعتماد الحكم الرشيد كشرط للتنمية البشرية ،الشيء الذي يحتم من بين أمور أخري مشاركة السكان في القرارات التي تهمهم و انبثاق تنمية منصفة مركزة علي إشباع حاجات السكان ضمن منظور الاستدامة.
من ضمن السياسات التنموية في البلد، يجدر التنبيه بالأهمية المحورية للإطار الاستراتيجي لمحاربة الفقر، الذي اعتمدته الدولة الموريتانية منذ يناير 2001م ، علي امتداد الفترة 2001م ـ 2015م ، باعتباره الرؤية الإستراتيجية الشاملة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية علي المدى المتوسط والبعيد، وما حققه بعد المصادقة علي المراحل الثلاثة المنصرمة، من خلال تنفيذ مكونات أساسية، أحاطت بمختلف جوانب الحياة التي من شأنها تطوير الظروف المعيشية للسكان وخلق توازنات محلية عن طريق ترقية القطاعات الإنتاجية.
فالإطار الاستراتيجي لمحاربة الفقر، شكل في حد ذاته السياسة التنموية الموجهة للبلد، عبر إعداد برامج لمكافحة الفقر علي مستوي كل الولايات، بشكل يراعي خصوصية كل ولاية، كالاعتماد علي ترقية التربية الحيوانية في الولايات الشرقية وتوجيه السياسة الزراعية نحو الولايات الجنوبية بما فيها مناطق الضفة والنهر،في حين عرفت الولايات الشمالية ذات البعد المنجمي قيام العديد من المنشآت الصناعية لتصدير معادن الحديد ،النحاس،الذهب ،بالإضافة إلي البترول والغاز. مما مكن من خلق أقطاب تنموية جهوية ،يرجع لها الفضل في تشغيل اليد العاملة وتوفير فرص الخدمات ،زيادة علي تثبيت السكان في مواطنهم الأصلية وحول المراكز الحضرية كبادرة للتعمير والإسكان .
ينضاف إلي ماسبق الإرادة السياسية القوية لدي الحكومة في توسعة النظرة الإستراتيجية للتنمية، مما تجسد في إقامة منطقة اقتصادية حرة علي مستوي العاصمة الاقتصادية انواذيبو، الشيء الذي يعول عليه في فتح مناخ جديد للإستثمار ،زيادة علي الطبيعة الاقتصادية للمدينة وما توفره من نهضة جهوية ،لجلب الرساميل الأجنبية ،لدفع عجلة النمو المحلي والوطني. هذا القرار الشجاع و التاريخي المماثل لتلك المتعلقة بتأميم شركة الحديد (ميفرما ) و إنشاء الأوقية كعملة وطنية،غداة الاستقلال الوطني .إنها نظرة إستراتيجية قادرة علي وضع بلادنا في قلب العولمة،نتيجة الترابط الإقتصادي المتزايد بين دول العالم،حيث أصبحت المنطقة مؤهلة كمركز تبادل للإستثمار الحقيقي.
هذا الإطار الذي يعتبر مثالا في المنهجية التشاورية بين شركاء موريتانيا في التنمية والمنتخبين المحليين وفاعلي المجتمع المدني. مكن البلد من معرفة نمو اقتصادي كبير، يتعلق بالزيادة السنوية للناتج الداخلي الخام،أي الزيادة النسبية التي هي محصلة لتنوع الزيادات لمختلف القطاعات الإقتصادية ، إلي جانب تراجع الفقر، حيث وصل معدل النمو نسبة 7% نهاية العام 2012م ، في حين تراجع تدريجيا خلال السنوات المنصرمة علي الشكل التالي ،نتيجة التقلبات التي عرفتها أسعار بعض الصناعات الإستخراجية ، للمواد المصدرة كالحديد و انخفاض مخزون الثروة السمكية ليصل 2013-6,7%م و 2014-6,8% م ، من معطيات الإقتصاد الكلي حسب القطاعات المنتجة للثروة التي تحمل قيمة مضافة ، مما أثار إشادة شركاء التنمية خاصة صندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي. فهل تنجح موريتانيا في بلوغ أهداف الألفية للتنمية ؟ وهل تواكب التحولات الهيكلية التي تعرفها القارة السمراء؟