نحاول في هذا المقال أن نلفت الانتباه إلى نوع روائيّ، نزعم أنّه يفيض على الرواية والسيرة الذاتيّة معا؛ وهو السيرة الروائيّة. وهو ليس من أدب التراجم ولا الاعترافات، وإنّما هو من «الأجناس التخييليّة» أو هو قصّة وتخييل، أو هو ملتقى الفنّ والحياة؛ أو«الحق» الفنّي و«الحقّ» التاريخي. ونقدّر أنّ نصوصا غير قليلة لنجيب محفوظ نفسه وإلياس خوري وغادة السمّان وواسيني الأعرج والحبيب السالمي ومحمّد الأشعري وحسونة المصباحي وحسن بن عثمان… تنضوي ضمن هذا الجنس الرائج الآن «السرد التخيّلي» حيث يلتبس التاريخ بالواقع والسيرة والرحلة أو السفر. والسرد أو القـَصَص مهما يكنْ نصيبه من الواقع، أو من الإيهام به، لا يعدو كونه تخيّلا أو افتراضا. وخير دليل لذلك هو اقتصاص أثر اللغة نفسها في هذا النمط من الخطاب، والعلائق المعقودة بين القصّ أو الإخبار في السياق الذي نحن به، والقصّة أو الحكاية. فثمّة صلات وثيقة بين الإخبار والحكاية، سواء في المستوى الزمني أو في مستوى الشخصيّة. وفي المستوى الأوّل يمكن أن نرصد علاقة التسلسل التاريخي أو الترتيب الزمني المعقودة بين فعل السرد أو الإخبار والأحداث المنقولة، على ضوء الطريقة التي تُروى بها. والسرد المتوخّى في الرواية أو في نصّها الحافّ. وهو غالبا ما يتّخذ هيئتين متلازمتين:
فهو سرد تالِ أو لاحق، حيث ترتسم علاقة أولى بين مُرسِل قاصٍّ أو ساردٍ ومرسَل إليه مرويّ له. وهذا المتقبّل مرسل ثان ينقل الرّسالة إلى متقبّل ثان لا يحدّ ولا يصنّف، أو هو متحرّر من رقّ الزّمان والمكان، لأنه القارئ في كل زمان وفي كلّ مكان، أو هو بعبارة معاصرة «المخاطـَب المتخيّل» أو «المفترَض» الذي يسعى المتلفظ إلى التحكم في أنساقه الفكريّة، واستباق ردود أفعاله، أو استنهاضه إلى فعل ما. وقد لا يخفى أنّ هذا «المخاطـَب» هو عمدة نجاح بلاغة السرد أو القصّ في النصّ، خاصّة عندما يكون غائبا عن ناظر المتلفظ. ومن هنا يتّخذ السرد هيئته الثانية، فهو سرد سابق يناسب القصّ الذي أساسه التنبّؤ أو الإخبار بالمستقبل. والمستقبل في هذا الضرب من القصص إنّما يروى وكأنّه حدث وقع؛ أو أنّ أساسه كان ما سوف يكون. إنّ اللجوء إلى الماضي في أكثر هذا النوع من السيرة الروائيّة، ممّا يسلبه قيمته الزمنيّة، ويجعل منه مجرّد علامة على «التخيّليّة»، بل إنّ دلالة الفعل الماضي في هذا النوع، إنّما هي على الحال والاستقبال معا، مثلما هي على حدوث شيء قبل زمن التكلّم. والرواية إنّما هي «حكاية حال ماضية» بعبارة القدامى (في تفسير كن فيكون). ولكنّها طريقة في ابتعاث المستقبل وتصويره في صورة الذي يحدث في الحال، أو كأنه يحدث الآن في زمن التكلم.
ثمّة سؤال لا يمكن تلافيه في أيّ نصّ سرديّ وهو: أعلينا دائما إجراء هذا التمييز بين المؤلّف والسارد، خاصّة كلّما كان السارد هو الكاتب نفسه مثلما هو شخصيّة في القصّة التي يرويها مثلما هو القارئ أيضا؟ وما إلى ذلك من أسئلة؛ فكيف نحدّ العلاقات ونرسم الحدود بين «الداخل» في العالم المحكي و»الخارج»؟ أو كيف نضبط الزمنيّة، ونحن نقيس الفارق الكبير تقريبا بين زمن الفعل السردي وزمن القصة؟
ثمّة في كلّ نصّ سرديّ ما يغري القارئ بإدماج الصوت السارد بمؤلّف النص، خاصّة كلّما توسّطت أنا السارد بين القارئ والقصّة.
فحضور ضمير المتكلّم في نظام النص، سواء أداره المؤلف بصيغة «أنا» أو على مقتضى أسلوب «الالتفات» من انصراف المتكلّم عن الإخبار إلى المخاطبة، وعن المخاطبة إلى الإخبار؛ إنّما هو من مقوّمات قراءة الألفة، إذ يمكن أن يدلّ حدسا أو ظنّا على تجربة عند القارئ هي تجربة «التقبّل الذّاتي» أو إدراك الذات وتعرّفها.
وهي ليست متجانسة عند جميع القرّاء، ولكنّهم يتقاسمونها بنسبة أو بأخرى، و»أنا» هي بمثابة واصل أو رابط بين القارئ والنصّ. والقرّاء جميعهم يتوفّرون على هذه الملـَكة في إسناد الكلام إلى النّفس، والرّجوع إلى الذّاكرة من حيث هي قوّة نفسيّة تحفظ الأشياء وتستحضرها. وواسطتهم في ذلك ضمير التكلّم في النصّ، إذ يحيلهم إلى تجربة جسديّة ونفسيّة لهم علم بها وخبرة، أو هم يدركونها بالاختبار لا بالنّظر. وما نلاحظه في استعمال الضّمير «أنا « أنّ المرجع هو سريرة المتكلّم الخاصّة أو دخيلته، وما قد يكون صدى أوهام أو بذواتٍ عارضة أو طارئة.
ولعلّ في هذا ما يسوق إلى القول إنّ إدراك القول، أو الملفوظ يفترض اختزال «الفرديّة» لكي يتيح فهم الأمور المتعلّقة باستعمال «أنا» في هذا النّمط من تجربة الكتابة ـ القراءة القائمة على ما أحبّ أن أسمّيه «إيلاف النصّ» والأنس به. ومثل هذا الضمير يضعنا إزاء متلفّظ أو قارئ يمكن القول إنّه مفرد بصيغة الجمع ذلك أنّ «الأنا» التي تستوقفنا في النصّ ليست إلاّ الواصل الذي يمكن أن يكون «نحن»، أي هذه المجموعة غير المحدّدة التي تتّسع للمتكلّم أيّا كان؛ بما يسوق إلى القول إنّ القارئ متضمّن في «أنا» مثلما هو متضمّن في»نحن» أيضا. إنّ «أنا» أشبه باسم لغير علم، يعقد صلة حميمة أشبه بوشيجة القربى، بين المتكلّم وكلامه؛ صلة أساسها علاقة تماثل. وهذا الضمير «أنا» الدالّ على المتلفظ في علاقة وجوديّة بالتـلفظ. وعلى الرغم من ذيـوعه وشيوعه «شديد الغرابة» وليس بالميسور محاصرته، لتعقّده وعدم ثباته.
هذا «الأنا السارد» في السيرة الروائيّة يسرد، ولكن لا أحد يجعله المؤلّف. ولعلّ هذا ممّا يتيح له أن يحصر السلطة في شخصه من جهة، وأن يجعل الذهن يتركّز في الشخصيّات الرئيسة، من جهة أخرى أي تلك التي يبسط عليها هذا السارد سلطته اللغويّة، أو هي تدور في فلكه.
ومثل هذه القدرة لا تمتح أمشاجها وعناصرها من ملكة غير انسانيّة وإنّما من ذاكرة قويّة تتيح لأيّ سارد أن يندسّ في سريرة الشخصيّة، ليجلوها في مجلى الظاهر أو الواقع. ومن الرجاحة بمكان أن نقرّر أنّ السارد «دور» يختلقه المؤلف أو هو يتبنّاه؛ وهذا ما يجعل السيرة الروائيّة تقاسم الرواية بعض خواصّها. ومن نافل القول أن نذكّر بضرورة التمييز بين الكاتب من حيث هو «أنا اجتماعيّة» والكاتب من حيث هو «أنا إبداعيّة».
بَيْدَ أنّ هذا لا يسوق إلى القول بـ«أدبيّة» خالصة في السيرة الروائيّة؛ فخلف كلّ نظام أدبي يختفي نظام ثقافي، والأدبيّة نفسها كثيرا ما تتحدّد من خلال «اللاأدبيّة». والقصّ يمتح من تلك المصادر الثلاثة التي يمتح منها أيّ قصّ: المؤلّف صاحب السيرة أو الترجمة والمؤلّف ـ الكاتب، والسارد.
لكن نحن هنا إزاء «مدوّنة» روائيّة هي ليست اعترافات حتّى تلحق بأدب الترجمة أو السيرة الذاتيّة؛ وإنّما هي ثمرة عمل «جماليّ» معقّد، هو من سعي المؤلّف ـ الكاتب ـ القارئ. ويتمثّل هذا العمل في صنع جهاز سرديّ يندرج فيه السارد: الحبكة والشخصيات والموضوعات والأسلوب، بما في ذلك هذا السارد الذي يتّخذ وضعا مواربا أو هو «مهذار» لا يؤتمن على سرّ. وهذه كلّها تؤول إلى «خطّة» أو «سياسة» أو ما يسمّيه المعاصرون «استراتيجيا الكتابة» أي «سياسة الكتابة»، وإلى مقصد هو مقصد المؤلّف، أي ما يُصطلح عليه بـ«المؤلف المتوهّم» أو»المتضمّن»أو «صورة المؤلّف النصيّة». ولكن ما يميّزه في هذا النوع من الأدب الروائي، أنّ مقصده يلتبس بأفكارالمؤلّف «البيوغرافي» وحالاته، بل هو أدب شي بصاحبه، حتى وهو يتستّر خلف بعض شخصيّاته؛ ودليلنا على ذلك هذه اللغة «العاشقة» التي لا يتحرّر صاحب النصّ من سطوتها، بل نحن نحار في غير موضع من هذه السير الروائيّة: فمن هو المتلفظ فيها؟ بل أنحن إزاء متلفظ واحد أم متلفظين؟ بل صوت من هذا الصوت السردي الذي يسند القول إلى «الشخصيّة» ثمّ يحتجب، ليعود فيملأ فعل القول «قال»؟ أهو «القاصّ» أي «الذي يتبع الآثار ويأتي بالخبر على وجهه»، كما جاء في مدوّنة التفسير عند أسلافنا؟ الحق أنّ الصوت السردي في النصّ، ليس بالذي نسمعه دائما، بل ربّما نحن نستمع إليه مخالسة؛ وكأنّنا نسترق السمع، فهو متكتّم صامت وكأنّه يطوي سرّا، أو كأنّ شأنه شأن الحرف الذي لا يلفظ، أو هو صوت أخرس. ومهما يكن من أمره فهو لا يتلاشى تماما، بل هو صوت يرتدّ على هيئة صدى؛ أشبه ما يكون بحرف اللين أو المدّ الذي يـُمدّ به الصوت. (الصدى لا يُرجع سوى هذه الأصوات). والسؤال هو كيف نستدلّ على هذا الصوت؟ والجواب على ما نرجّح يكون باستنطاق أعمال من أدب السيرة الروائيّة. وهو ما سنحاوله في مقالات مقبلة.
كاتب تونسي
منصف الوهايبي