محمد الأمجد ولد محمد الأمين السالم
رغم أنني لم أتعرف بصفة مباشرة على العالم الجليل محمد عالي ولد عبد الودود (عدود) ـ رحمه الله ـ فقد أخذ حبه والتعلق بشخصيته العلمية مجامع قلبي وذلك لكثرة ما سمعت عنه من بعض من تتلمذوا عليه، ولما روى لي والدي رحمه الله من قصص وحكايات تدور حول بعض فتاواه وبعض أقضيته، وما تميز به من ورع وسعة علم وذكاء وتفان في بث العلم وكرم نفس وسعي في مصالح المسلمين إلى غير ذلك من الخصال الحميدة والمناقب السامية التي نحن اليوم في أمس الحاجة إلى استحضارها والتذكير بها.
هكذا أحببت لمرابط محمد عالي ولد عدود فبقيت صورته الناصعة بكل أبعادها العلمية والخلقية والاجتماعية مرسومة في ذهني، حاضرة في مخيلتي، و بهذا صرت من طلابه وخاصة رواد مجلسه وأنا الذي لم أحظ بلقائه ولو لمرة واحدة، وكم مرة رغبت في كتابة مقال أو إعداد بحث أو قراءة كتاب عن سيرة هذا الرجل النموذجي الذي مثل صورة العالم الرباني الذي ينصر المظلوم ويقف مع الحق مهما كلفه ذلك يقول لنا الحسن ولد ابا الجكني مخاطبا لمرابط :
أيا حاكما لا يستمال بمـال
لدى الحكم من مشهور مذهب مال (ك)
ويا من يسوي بـين خصميه دائما
فسيـان خل في المقـــال وقال
محمد عـالي لا عدمت ترفــعا
علـــى كل عال في الورى بمعالي
أرى كل مـدح في عن كمالك ناقصا
ففي مدحك المحمـــود نقص كمال
هذا العالم الذي عبر عن بيئته العلمية وفضائه المعرفي النوعي بقوله:
وكم تعاطى بها الإخوان في طرب
من راح علم مداما قرقفا أنفا
ترى ابن يوسف محتثا نجائبه
ينحو بها الأشعري الكامل الشرفا
ترى الجويني والشيخ الإمام بها
بين التعادل والترجيح قد وقفا
فيها علي وعمرو لا يروعهما
زنبور واش إذا ما دب وازدلفا
لا يختشي ابن يزيد يوم تائبة
فيها ابن يحيى ولا يحيى بها خلفا
وقد أتحف الأستاذ سيد المختار ولد والد الساحة العلمية والمشتغلين في حقل الثقافة والمهتمين بفقه النوازل بصفة خاصة بكتاب نوعي مضمونا وشكلا عن حياة ومدونة فتاوى لمرابط محمد عالي ولد عدود ـ رحمه الله ـ فكانت له حسنة السبق وريادة المبادرة بتأليف هذا الكتاب الهام وطباعته على نفقته الخاصة.
مؤلف كتاب لمرابط محمد عالي ولد عدود السيد عبد الله ولد سيد المختار ولد والد هو أحد طلاب محظرة لمرابط الذين عايشوه عن قرب وأخذوا عنه ما تيسر من المتون الفقهية والنحوية واللغوية، يقول مؤلف الكتاب : "لقد كان من فضائل والدي علي أن أرسلني وأنا في سن المراهقة إلى محظرة لمرابط محمد عالي ولد عدود عند بئر شهلات الشهيرة..هكذا عايشت لمرابط محمد عالي ـ رحمه الله ـ معلما عطوفا وأبا حنونا ودرست عليه ما تيسر من المتون الأولية المعروفة فقها ونحوا..واستمعت إلى تدريسه كما لا زمت مجالسه وتكرار تلامذته الكبار والتكرار ـ حقا ـ مدرسة أخرى، لقد أحببت لمرابط وتأثرت به كثيرا وظلت تلك الفترة إلى اليوم ماثلة في عيني، أحببت وسطيته واعتداله وطيبه فهو بالنسبة لي رمز من رموز السلف الشنقيطي الصالح أصحاب الهدي الأول ص 6-7".
ويعبر مؤلف الكتاب وناشره عن بواعث هذا العمل بقوله: "وإني لأرجو أن أكون بهذا العمل قد حققت شيئا مما كان يتمناه شيخي في حياته وهو حثه الدائم لنا على أن نكون سباقين للخير وأن نعمل ما لم يعمله أحد قبلنا وأن أكون قد أديت جزءا ولو بسيطا مما للمرابط علي وعلى والدي من حقوق وفاء له ولهما، ولم أقم بهذا العمل ملتمسا أي شهرة أو منافع مادية وإنما هو عمل لوجه الله سبحانه وتعالى أسأله أن ينفعني به والمسلمين وأن يجعله غدا في ميزان حسناتنا والله حسبي عليه توكلت وإليه أنيب ص9".
ويتضح من هذا السياق أن علاقة المؤلف الناشر (عبد الله ولد سيد المختار ولد والد) بالمؤلف عنه (لمرابط محمد عالي ولد عدود ـ رحمه الله ـ) علاقة تضرب في جذور التلمذة المباشرة وآصرة المودة الخالصة التي جمعت بين الأسرتين (آل والد وآل عدود) مما مكن المؤلف من إعطاء القارئ صورة دقيقة متكاملة الأبعاد عن شخصية علمية واجتماعية يعرفها حق المعرفة.
قدم المؤلف سيرة ذاتية شاملة للمرابط محمد عالي ولد عدود وذلك ضمن عنوان هو "لمرابط محمد عالي في سطور" وقد غطى الحديث ضمن هذا العنوان عشرين صفحة من صفحات الكتاب وشمل عناوين جزئية هي بداية المشوار، تجربة القضاء، آثاره العلمية، طلابه وتلامذة محظرته، إن الله لا يقبض العلم انتزاعا، وهو العنوان الذي خصصه المؤلف للحديث عن وفاة لمرابط حيث بين تاريخ وفاته، ومكانها ومكان دفنه، ونماذج مما رثاه به بعض أعلام البلد مثل العالم المؤرخ المختار بن حامد رحمه الله، والعالم الفقيه محمد فال (اباه) والعلامة الدنبج ولد معاوية.
وقد أعطى المؤلف صورة دقيقة عن كل الجزئيات المتعلقة بشخصية محمد عالي ولد عدود ـ رحمه الله ـ مبينا أمثلة ونماذج على تفانيه في خدمة العلم وتحري الدقة وعدم التسرع في الفتوى وعدم التعصب لفتوى أصدرها أو لقول قال به إضافة إلى ما عرف عنه من نبذ للشاذ من الأحكام والبعد عن التضييق والتعسير على الناس مع عدم التساهل في المواطن التي يجب التشديد فيها إضافة إلى ما تحلى به هذا العالم الجليل من تواضع وبساطة وعزوف عن مظاهر الترف وشهوات الدنيا الزائلة.
يقع كتاب "لمرابط محمد عالي ولد عدود حياته وآثاره" في 288صفحة من الحجم المتوسط تشمل مقدمة وتعريفا موسعا بلمرابط إضافة إلى مائة وسبعة عشر (117) عنوانا تمثل مدونة الفتاوى و سبع ملحقات.
وقد بين المؤلف أن الجهد العلمي الذي بذل في هذا الكتاب تمثل في جمع وتوثيق جانب الفتاوى خاصة، وذلك باعتبار أن لمرابط ـ رحمه الله ـ "فقيها بالدرجة الأولى ومن ذلك النوع من الفقهاء الذي تفاعل مع وسطه وبيئته ص8 " كما أوضح أن تلك الفتاوى تحمل "قيمة سوسيولوجية عاكسة لحياة مجتمع تلك الفترة ص9".
أما منهج المؤلف في التعامل مع مدونة الفتاوى فقد عبر عنه بقوله "وما كان لي ولا لغيري أن أتصرف في مضمون هذه الفتاوى ولا في شكلها طالما أنها محكومة بجهات الفتوى من حيث الزمان والمكان بل اقتصرت على التأكد من المصادر ثم قمت بجمع ما تيسر جمعه من هذه المادة (مدونة الفتاوى) وتبويبها حسب الترتيب الفقهي المعروف بدءا بالطهارة وانتهاء بفقه المعاملات ص9".
كما شكلت ملحقات الكتاب إضافة نوعية تعبر عن حسن الاختيار والانسجام التام بين الشخصية العلمية والشخصية الاجتماعية للمرحوم لمرابط محمد عالي ولد عدود مدونة الملحقات تمثلت في:
- صورة مستخرجة من جواز سفر لمرابط محمد عالي ولد عدود سنة 1955؛
- صورة نادرة تجمع بين العلامة محمد سالم ولد محمد عالي ولد عدود والإمام الراتب لحي شهلات الشيخ الفاضل الددو ولد مماه والد الشيخ محمد الحسن ولد الددو؛
- منظر من مقبرة اكماط يشمل ضريح لمرابط محمد عالي خلف ضريح ابنه محمد سالم رحمهما الله؛
- نماذج من خط لمرابط تتمثل في الصفحتين الأولى والأخيرة من طرة الحسن ولد زين رحمه الله على لامية الأفعال والصفحة الأولى والأخيرة من طرة على نظم محنض بابا بن اعبيد رحمه الله المعروف بـ"سلم الوصول إلى نيل الأصول"؛
- نماذج من تذييل (شروح) لمرابط محمد عالي ولد عدود لنظم العالم مم ولد عبد الحميد رحمه الله لحياة شيخيهما يحظيه بن عبد الودود رحم الله الجميع؛
- مختارات من نظم الشيخ محمد الحسن ولد الددو حفيد لمرابط محمد عالي ولد عدود ـ رحمه الله ـ؛
- نماذج من تزكيات وتسليم بعض العلماء الموريتانيين لفتاوى صدرت من لمرابط محمد عالي ولد عدود ـ رحمه الله ـ؛
- ترجمة مختصرة لمحمد سالم ولد عدود رحمه الله تضمنت سيرته الذاتية ومكانته العلمية؛
- نماذج من أنظام وشعر الشيخ محمد سالم ولد عدود رحمه الله.
ومما يحمد للمؤلف ما تميز به من أمانة علمية، وما حرص عليه في هذا الكتاب من سلامة لغوية ـ أسلوبا وإملاء ـ وعدم ميل للمبالغة إضافة إلى الجهد البين الذي بذل من أجل أن يبرز الكتاب في ثوب قشيب يساعد القارئ على قراءته والعل والنهل من معينه، وذلك من حيث الطباعة الجيدة ورقا وإخراجا، ومن حثيث اختيار العناوين ونوعية الخط، إضافة إلى التصرف بعناية فائقة في المزج ما بين الألوان. وقد اختار المؤلف للكتاب عنوانا تميز بالتلقائية والبساطة هو "لمرابط محمد عالى ولد عدود حياته وآثاره" وأبرز العنوان باللون الأحمر، وجعل له خلفية تمثلت في نموذج من طرة (شرح) الحسن ولد زين بخط المؤلف مكتوبة بالمداد الأسود ووضع وسط هذه الخلفية صورة للمرابط واضحة المعالم جيدة الإخراج، مع الحرص على كتابة كل العناوين الجزئية بصفة واضحة باللون الأحمر، وقد شكل هذا الجهد انسجاما وتناغما فنيا جميلا بين العناوين الجزئية المكتوبة بصفة واضحة وسليمة باللون الأحمر والمتن المكتوب باللون الأسود.
وباعتبار أن الكلام عن محمد عالي ولد عدود يذكر بعبق المحظرة الموريتانية الأصيلة التي تخرج منها لمرابط محمد عالي بن عدود بامتياز بلا بأس في أن نختم هذا الحديث عنه بأبيات شعر للعالم الجليل محمد محمود بن عبد الحميد المعروف "بمم" وهو أحد زملاء لمرابط في الدراسة على شيخهما يحظيه بن عبد الودود رحمهم الله.
وأبيات العلامة مم بن عبد الحميد المذكورة تعطي صورة دقيقة وجميلة عن خيمة طلاب المحظرة المؤبدين المتفرغين للدراسة، كما تعبر عن سمو أولائك الطلاب وعلو هممهم وتفانيهم في سبيل تحصيل العلم يقول مم بن عبد الحميد:
لبيت خيــــوط قد تلاشت حبـــاله
وأوتاده بالي الجوانب طامس
به فتيـــــة شم الأنـــــوف أعــزة
لهم همم قصـــوى كرام أشاوس
بأكنـــــافه يلفى الرمـــــاد مفرقا
بحـافاته منه جــديد ودارس
ينازع بعض القوم بعضا فيمتـري
فتفتح من بعد الجــدال القوامس
أحب إليـــــنا من خبـــــاء لطفلة
كعوب لغــوب ما لها فيه حارس
وأخيرا فإن من واجب المهتمين بالعلم، وبالشأن الثقافي عامة، والمعنيين بالفتاوى من علماء و قضاة وباحثين وطلاب، أن يحتضنوا هذا الكتاب لما تضمن من علم غزير ومتنوع يجيب على الكثير من الأسئلة المتعلقة بفقه الواقع اقتصادا واجتماعا وعبادات.