بعد تحديد الاستراتيجية تصبح كل المهام في حالة خضوع وغايتها وهدفها المساهمة في نجاح الاستراتيجية. إن الاستراتيجية هي التي تحدد لها أهدافها التكتيكية ومراحلها الوقتية وتدرجها التسلسلي على مقياسها هي وإيقاع نبضات قلب كل منها.
هذه المقاربة الخاصة بالاستراتيجية تثريها ميزة مرافقة لازمة وهي المنطق التناقضي.
مجال الاستراتيجية يحكمه المنطق التناقضي الخاص به، والمغاير للمنطق الخطي العادي. هذا المنطق يبينه المثل الروماني الشهير: "إذا كنت تريد السلم فعليك أن تحضر الحرب"، كما يوضحه، امتناع الاستراتيجية، غالبا عن البحث عن الحل الأمثل لصالح حلول أخرى أكثر تعقيدا، من شأنها أن تُخفي أو أن لا تتعرض لإجراءات مضادة والبحث عن "الخط الأقل عرضة لأن يتنبأ به".
المقاربة الاستراتيجية تنطبق على السياسة الداخلية، بدون أن تقتضي بالضرورة المنطق التناقضي، ولكن المنطق التناقضي ينسجم تماما مع مجالات العمل الخارجي للدولة مثل: الدبلوماسية والدعاية والعمليات السرية وممارسة التأثير الاقتصادي، إضافة بالطبع إلى حالة نزاع أو اصطدام جار أو في جو ينذر بوقوعه.
II- التحديات الاستراتيجية:
التحديات الاستراتيجية التي نحن بصددها هي في الواقع أهداف لاستراتيجية أو لاستراتيجيات يجب تحديدها أو بناؤها، وتهتم أساسا بالوضع الداخلي في ما هو جوهري للمجموعة الوطنية. في هذه المرحلة لا يجوز لأي أحد أن يعفي نفسه من الخوض في اقتراح، كما يقول المفكر الفلسطيني البارز إدوارد سعيد، الأستاذ السابق في هارفارد: "نظرة للغد تطرح القضايا الوجدانية لمستقبلنا كشعب". إدوارد سعيد يعني طبعا العرب ككل.
بشكل عام فإن واجب الدول الأول هو الدفاع عن الفضاء والرجال والروح، الروح تعني الكائن المعنوي لشعب معين، في خصوصيته وتميزه السوسيولوجي والثقافي كنتاج للتاريخ.
أ- الفضاء الجغرافي:
الفضاء هو المجال الجيوغرافي والقانوني المحدد بإقصاء أحقية الآخرين. "البلد محمي، يقول اكلوز فتيش"، ما دامت الحدود مدافعا عنها".
1- الصحراء الكبرى:
بقيت الصحراء لزمن طويل، لمدة قرون، هي غطاؤنا الخارجي الواقي. لم يتمكن الاستعمار من اختراقها إلا بعون بعضنا الذين ساعدوه على دخولها ولكنه في الواقع لم يتحكم فيها. بإمكاننا أن نقول إنه هيمن عليها نظريا، كمحمية وليس كمستعمرة. بقيت الصحراء لا ينفذ إليها، رافضة للغير، صعبة الإنقياد، لذلك بقيت لنا، كمنزلنا الخاص، المألوف والأليف، الذي نشعر فيه بالحرية، في مأمن من المتطفلين. النظام والأمن مصانان حقيقة من طرفنا، أحكام العدالة تصدر عنا بما فيها أقصى العقوبات، وهو حكم الإعدام، دون علم المستعمر. السلاح متداول ومنتشر بكل حرية، مع أنه محظور أشد الحظر من طرف المستعمر.
إن الصحراء الكبرى كانت تحمينا من الشمال والشرق مثل الفراغ الاستراتيجي الروسي، شرق جبال الأورال، الذي يحمي الروس على مدى آلاف الكيلومترات نحو الدولة الصينية التي كانت لا تشكل إلا خطرا هامشيا للغاية على الحدود الروسية.
ولكن الزمن تغير، ميكانيك الآلات العصرية، وخاصة السيارات العابرة للصحاري، بدلت هذا الأمن إلى ضعف قابل للاختراق.
على مرتين متتاليتين، عام 1976 وعام 1977، وصلت إلى نواكشوط، دون أن تكتشف، طوابير سيارات عسكرية، منطلقة من تيندوف، وقصفت بشكل مفاجئ العاصمة. خلال نفس الفترة، فترة حرب الصحراء الغربية، هاجمت مجموعات من السيارات المسلحة، منطلقة من قواعدها في تيندوف، كلا من باسكنو، النعمة، ولاتة، تيشيت، تجكجه، شنقيط، وادان، وازويرات. على مدى جبهة استراتيجية بهذا الامتداد يكون طلب الاكتشاف المبكر من الجيش الموريتاني، تعجيزيا مثل طلب اكتشاف نملة في منطقة آوكار الذي يقال إن الغزلان كانت تضل فيها أبناءها.
في سنة 2005 هاجم كوماندوز أو قوة محمولة على السيارات، قادمة على الأرجح من الصحراء الجزائرية، ثكنة المغيطي المعزولة، في الحنك.
إن آلاف الكيلومترات غير المضيافة في الشمال والشرق وخلو الوسط والشمال الصحراوي، من السكان، وانعدام المراكز المأهولة، والتخلي التام عن هذه المناطق خلال الثلاثين سنة الماضية، حوّل هذا القفر الشاسع الذي كان هو نقطة قوتنا إلى نقطة ضعف. إنه ظهر الآن على ما صار عليه دون أن نشعر والذي نكتشفه اليوم بذعر: بطنا رخوا، أرضا شاسعة من المحال، عمليا، مراقبتها بالصيغ المألوفة. ويتساءل المرء هل التدابير العسكرية الكلاسيكية ما زالت مجدية ومناسبة، وهل لا يجوز أن نبرهن على قوة خيال ونستنجد التقاليد الحربية المحلية، لاختراع نظام دفاع مناسب.
على طول هذه الحدود الصحراوية يسود إما انعدام الأمن وإما عدم الاطمئنان.
السلم المسلح ـ أو وقف إطلاق النار على الأصح- بين جبهة البوليساريو والمغرب هش ولا أحد يمكنه الرهان على أن ذلك الوضع ليس بإمكانه الإنهيار في أي وقت. الجماعة السلفية للدعوة والقتال، التي غيرت اسمها أخيرا إلى القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، ما تزال نشطة على التخوم الجزائرية- الموريتانيةـ المالية وليس هنالك ما يبرهن على أنها لن تلجأ لتدخلات مسلحة جديدة.
أما منطقة أزواد فإنها لا تزال مضطربة وولاؤها للحكومة المالية غير أكيد. إن نسيان شعور هؤلاء السكان ومصالحهم المشروعة قد أحيى في السنة الماضية شياطين التمرد في ولاية كيدال، وجاء برهانا ساطعا على أن اتفاق الصلح مع الحكومة المالية فاقد للمصداقية وأنه لم يلب المطالب الأساسية لشعب أزواد في جوهرها. وإن التمرد الذي اندلع أخيرا عند إخوانهم وجيرانهم في الجنس في الشرق، في صحراء النيجر، ليس من شأنه أن يهدئهم أو يثبط هممهم. على العكس، من شأنه أن يشجع التعاون المتبادل من أجل أهداف متشابهة أو مشتركة وفي النهاية يسهم في إشعال الصحراء الكبرى بأكملها.
إفراط الاهتمام بالصحراء الكبرى من طرف دول بعيدة، تعتبر كما يقول ريمون آرون: "إن الأرض دائما ثمينة عندما تكون خالية أو قليلة السكان"، اهتمام له طابع الاستفزاز وميزة هوس إشعال الحرائق.
كل بؤرة تشعلها جبهة البوليساريو أو الجماعة السلفية أو حركات أزواد، منفردة أو متزامنة، مهما كانت ظروفها وأسبابها المباشرة، تحتوي بطبيعتها على مخاطر حقيقية على البلد.
إن اتساع هذه البؤر أو فيضانها أو طفحها التلقائي أو الإرادي على أرضنا حتمي الحدوث عمليا، في الظروف الحالية، ويشكل موضوع قلق حقيقي بالنسبة لأمننا.
2- النهر:
كانت دائما الحدود الطبيعية التي يشكلها النهر غير قابلة للاجتياح ولم يأت غاز من الجنوب قبل الغزو الاستعماري الذي قدم من السنغال.
إن هذه الحدود النهرية كانت مدعمة بمانعين، أولهما شعب محارب يحمل السلاح بأسره وثانيهما السد الثقافي الواقي: اللغة والعادات منعت التسللات الناعمة وحركات الهجرة نحو الشمال. ولكن في الواقع السياسي والاقتصادي الدولي السائد، الذي يتميز بظلم ونهب إفريقيا، فإن الاضطرابات الواسعة للسكان التي تهز القارة السوداء، من نهر لو مبوبو إلى مشارف نهرنا في روصبيتو، تجعل من موريتانيا إحدى المحطات المفضلة وإحدى المسطحات التي تجتاز بدون عرقلة، سواء للمقام فيها أو كخشبة قفز نحو جزر الخالدات وأوروبا التي أصبحت بالنسبة للأفارقة جنة الدنيا.
آلاف الأفارقة يدفعهم الفقر والشك في المستقبل يزدحمون على الضفة الأخرى ويجتازوون الحدود الجنوبية لتجريب حظهم في العمل في موريتانيا أو للمرور عبرها نحو الشمال.
قال اكلوز فيتش: "إن سوابق نهر محصن بشكل فعال نادرة في التاريخ".
يتواصل ..
نقلا عن موقع اضواء الاخباري