قرابة الخامسة إلا ربعاً من بعد ظهر السبت 28 شباط/فبراير، أغلق الكاتب الكردي – التركي الكبير يشار كمال عينيه للمرة الأخيرة، لتفقد تركيا فيه أحد أهم قاماتها الأدبية. وعلى رغم تصنيفه عموماً كاتبا معارضا، على اختلاف العهود والحكومات، إلا أنه شارك في تعزيته القادة السياسيون من جميع التيارات، بدءًا برئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو ورئيس مجلس النواب جميل جيجك، وانتهاءً بقادة أحزاب المعارضة جميعاً.
وكتب المحلل السياسي سولي أوزال عن كمال يقول: «هناك شخصيات لا يمكن لأي كلمات أو تعابير أن تستوعبهم أو تفيهم حقهم. كان المبدع الكردي باللغة التركية يشار كمال من هذا النوع. هو الذي كتب أعمالاً أسطورية من مستوى أساطير الأناضول، التي تغذت منها رواياته وقصصه. كان كمال، بالنظر إلى الظروف التي ولد فيها، يملك كل الأسباب ليكون شخصاً يائساً ويظل كذلك. لكنه كان الكاتب الذي يولِّد الأمل من اليأس، ويبدع مشاهد إنسانية رائعة من بؤس بيئته ومن كل ما يراه. أنتج قصصاً تبعث على النشوة وصوراً تتحدى الخيال. والأهم من كل ذلك أنه كان ينتج الحياة».
وكتب جم أرجياس يقول: «فقدت تركيا أكبر روائييها والكاتب الذي أحبته أكثر من الجميع». وتابع يقول: «بلغته وأسلوبه الخاصين، وجد كمال لنفسه مكانةً تليق به في الأدب العالمي، فضلاً عن الأدب التركي. فمنذ زمن طويل واسمه يذكر، مع اسم ناظم حكمت، كلما دار الحديث عن الأدب التركي خارج تركيا، قبل أي أسماء أخرى. لكن الأهم من ذلك مقدار الحب الذي قوبل به في تركيا نفسها، لا ينافسه أي أديب آخر على هذا القبول العام… وكما هي حال أساطير الأناضول التي استفاد منها في ما كتب، كذلك هي حال رواياته التي تحولت على مر السنين إلى سرديات شعبية مغفلة، وشخصياته التي تحولت إلى أساطير جديدة من الأناضول».
كثيرة هي المرات التي انتشر فيها خبر، في وسائل الإعلام التركية، عن «العثور على قبر إينجة ميمد» بطل رباعيته الشهيرة التي حملت الاسم نفسه. فكان يشار كمال يعلق باسماً على تلك الأخبار، فيقول: «إينجة ميمد لا يموت! لا يمكنكم قتله». وكيف تموت شخصية روائية تحولت إلى أسطورة عن إنسان الأناضول المعدم والمتمرد؟
«كتبت عن الإنسان ابن الاضطرار» كان الروائي الراحل يقول. الإنسان المحكوم بالتمرد والكفاح ضد الفقر والنظام الجائر والطبيعة القاسية. وكان «إينجة ميمد» (ترجمت إلى العربية بعنوان «ميميد الناحل») هو النموذج الأكثر تبلوراً لإنسان الأناضول هذا.
ولد يشار كمال، عام 1923، لعائلة فلاحية في قرية حميدة في ريف مدينة عثمانية. اسمه الحقيقي كمال صادق غوكجلي. فقد إحدى عينيه بسبب حادث بسيط في طفولته، بدأ بنشر قصائد شعرية في إحدى المجلات المحلية حين كان طالباً في المرحلة الإعدادية في مدينة أضنة، ثم اضطر لترك الدراسة واشتغل في أعمال مختلفة، عاملاً زراعياً في حقول الرز وسائق جرار زراعي وكاتب عرائض ومعلم مدرسة وموظفاً في مكتبة عامة وغيرها من الأعمال. في مطلع الأربعينات أقام علاقات مع كتاب وفنانين يساريين كبرتيف نائلي بوراتاف والأخوين عارف وعابدين دينو. عاش تجربته الأولى في الاعتقال السياسي في السابعة عشرة من عمره. في عام 1943 نشر كتابه الأول بعنوان «المراثي» وهو نوع من تدوين لفلكلور منطقته. بعد انتهائه من أداء الخدمة العسكرية الإلزامية، انتقل للعيش في اسطنبول عام 1946، حيث عمل موظفاً في شركة فرنسية لتوزيع الغاز. اعتقل مرة ثانية، في 1950، بتهمة القيام بدعاية شيوعية، ليطلق سراحه في العام التالي. بين 1951 – 1963 عمل في يومية «جمهورييت» ذات النزعة الكمالية كاتباً للقصص الساخرة والتحقيقات، وبدأ يوقع كتاباته باسم يشار كمال. في غضون ذلك نشر مجموعته القصصية الأولى، في عام 1952، بعنوان «الحَرّ الأصفر»، تلته روايته الأولى «إينجة ميمد» في عام 1955، التي صدرت منها عشرات الطبعات وترجمت إلى لغات كثيرة.
في عام 1962 انضم إلى حزب العمال التركي وشغل فيه مواقع قيادية. تعرض، بسبب كتاباته ونشاطه السياسي لملاحقات قضائية عديدة. في 1967 كان بين مؤسسي المجلة السياسية الأسبوعية «آنت»، كما شارك في الهيئة التأسيسية لجمعية الكُتَّاب التي رأسها بين 1974-1975. كما كان أول رئيس لجمعية pen للكتاب حين تأسست في 1988. تعرض، في عام 1995، للمحاكمة أمام محكمة أمن الدولة بسبب مقالة نشرها في مجلة «دير شبيغل» الألمانية.
حصل يشار كمال على العديد من الجوائز الأدبية التركية والعالمية، وسبعة ألقاب دكتوراه فخرية منها اثنان من جامعات أجنبية. تميز أسلوبه عن التيار العريض لـ»أدب الريف» بأنه لم يكتف بتصوير إنسان ريف الأناضول في إطار شبكة العلاقات الطبقية التقليدية، بل منح البيئة مكانةً خاصة، إلى درجة أن النقاد أجمعوا على أن الطبيعة هي إحدى الشخصيات الرئيسية في رواياته وقصصه. بإمكان القارئ أن يجد بسهولة مشاهد طويلة (بحجم فصل) عن اصطياد صقر لغزال أو عن تزاوج ثعبانين، في غياب تام عن الشخصيات الروائية البشرية. ولغة يشار كمال اتسقت مع هذا الاهتمام بالطبيعة، كما بأساطير شعوب الأناضول وخرافاته الشعبية، إلى درجة نشر بعض النقاد قاموساً بعنوان «قاموس يشار كمال».
تتزامن وفاة الكاتب الكبير مع صدور الدعوة المرتقبة من عبد الله أوجالان لحزب العمال الكردستاني بالتخلي عن السلاح. وقد كان ممن اختارتهم الدولة التركية، قبل سنوات، في «هيئة الحكماء» لبحث سبل حل المسألة الكردية في تركيا حلاً سياسياً.
الكلمات التالية من آخر تصريح ليشار كمال بمناسبة منحه دكتوراه فخرية من إحدى الجامعات التركية: «أريد أن أؤكد أنني كاتب «ملتزم». ملتزم بالكلمة وبكرامة الإنسان. أردتُ، بصورة واعية، أن أقول أغنية النور والطيبة والجمال. أردتُ لرواياتي أن تقول ما هو صحيح وما هو مع الحياة. ذلك لأن الحياة هي استنباط الأمل من اليأس».
بكر صدقي