يقول الكاتب البريطاني صموئيل جونسن «ما يكتب بدون جهد يقرأ بدون جهد». فالرواية الجيّدة لا تأتي من فراغ ولا تأتي من إلهام مفاجئ، الكتابة الروائية صنعة وحرفة تُصقل بالممارسة وبالقراءة وبالتدريب وتعلم التقنيات المتجددة للكتابة الروائية. وهذا ما توّفره ورشات الكتابة المنتشرة في الغرب، التي أصبحت من عادات هذه الأمم، مقابل حضور محتشم في بلداننا العربية، لأنّ الأغلبية من الناس مازالت تؤمن بشيطان الإلهام والفطرة والموهبة.
«بيت الخيال» ورشة للكتابة الإبداعية مشروع ثقافي تونسي فلسطيني يحاول أن يفنّد هذا الإقرار الأخير ويقول مع الكاتب الكبير ساراماغو: «لا اعتقد أنني التقيت بشخص يدعى إلهام، شرط الكتابة الوحيد هو الجلوس إلى الطاولة». بيت يمسك بمفاتيحه كل من الروائي كمال الرياحي، الذي سبق أن اشرف على العديد من ورشات الكتابة في تونس وخارجها، تشاركه هذا المشروع الناقدة والمترجمة الفلسطينية ريم غنايم، يفتحان أبواب هذا البيت للكتّاب الشبان الذين يرغبون في الكتابة ولديهم مشروع ولكنهم يعانون من عوائق وحواجز وربما رهبة من الورقة البيضاء.
«بيت الخيال» مشروع جذوره في تونس وفروعه في كل أنحاء العالم: كتّاب من فرنسا ومن سويسرا وإثيوبيا والعراق ومن مختلف الجهات الداخلية التونسية يلتقون كل يوم أحد في جلسة أدبية، مجموعة حاضرة مع المشرف، والمجموعة الأخرى حاضرة عبر السكايب. ويحمل هذا البيت شعار «الكتابة ماراثون يقوّي عضلات القلب والأصابع»، وهو عنوان البيان الذي أصدره أصحابه ونُشر في موقعه على الإنترنت، وهو بيان يجيب على الأسئلة التالية، لماذا نؤسس ورشة كتابية؟ هل تحتاج الكتابة الأدبية إلى تدريب، وما الفائدة من وراء ذلك؟
والطريف أنّ هذا البيت كما الرواية يؤمن بتكامل الفنون فلا يكتفي أصحابه بالتدريب على الكتابة وتعلم تقنيات الرواية والتعرف على الأجناس الأدبية المختلفة، وإنما يستضيف في كل دورة رساما أو فنانا تشكيليا يحمل معه في كل ورشة لوحة من لوحاته تناقش ويمكن أن تكون ملهمة لبعض الكتاب، فيكتبون نصوصا مستوحاة منها. ويستضيف في كل مرة أيضا ضيفا من الأدباء أو المهتمين بالشأن الأدبي للتعرف عليه وعلى تجربته. وتقوم المترجمة والناقدة ريم غنايم بترجمة نصوص نظرية وأدبية خاصة بالورشة تُترجم لأوّل مرة وتقوم بتصحيح النصوص وتصويبها مع الروائي كمال الرياحي.
وستكون هذه الأنشطة متوفرة في كتاب في آخر الموسم فيه اللوحات والنصوص النظرية والأدبية المترجمة، وفيه أحسن النصوص المكتوبة من طرف الكتّاب مما يخلق بعض التنافس بين المشتركين .
وقد عُقدت أولى ورشات هذا البيت في مفتتح فيفري وتتعلق الدورة الأولى بتيمة «الطفولة»، وكما قال جون براين «ان تكتب رواية يعني قبل كل شيء أن تتذكر»، وبعد أن نوقش البيان في الورشة الأولى، بدأ العمل في الورشة الثانية على التفريق النظري بين الأجناس الأدبية: السيرة الذاتية، اليوميات والمذكرات والفروق النظرية بينهما وميزة كل واحدة فيهما، وقد قدم كمال الرياحي مدونة غنية حول اليوميات من الأدب العالمي والأدب العربي ومنها نذكر، «يوميات كافكا» لماكس برود، «يوميات موينخ» للكاتب التونسي حسونة مصباحي، «يوميات الواحات» لصنع الله ابراهيم، «اليوميات» لاناييس نين وهي عشيقة ميللر، «يوميات كاتبة» لفيرجينيا وولف و»يوميات فريدا كاهلو» و»يوميات مجنون» لغوغول وغيرها، وبعد تدارس هذه الكتب وتقييمها والتعرض لمسألة الصدق والحدود بين الحقيقة والمتخيل وقصور الذاكرة وكتابة اليوميات بين الإنسان العادي والفنان المشهور وكتابة اليومي والحميمي وقضية الجرأة في الكتابة وتعرية الذات، كان سكان البيت يناقشون نص بول استر من «يوميات الشتاء»، ترجمته خصيصا ريم غنايم لأهل البيت وتبينوا أنّ هذه اليومية من حيث الشكل لا تنبئ بجنسها ليس فيها تاريخ ولا يوم، إنما قدمها بول استر بطريقة مختلفة يستعمل فيها ضمير المخاطب «أنت» عوض ضمير المتكلم «أنا» كتابة تخضع للتجريب فهو يخرج الطفل الذي يسكنه ليواجهه بهذه الذاكرة، نصّ قدّم لنا علاقة بول استر بالمرأة بأمّه وبعلاقاته النسائية رأيه في الحب والجمال والمرأة، وهذا طريف باعتبار أنّنا لم نتعود من بول استر التطرق لمثل هذه المواضيع في كتاباته..
ثم نوقش نص للكاتبة زينب كيناني من العراق مستوحى من لوحة للفنانة نجاة الذهبي وهي ضيفة الدورة، فنانة تونسية أستاذة جامعية في معهد الفنون، قامت بالعديد من المعارض الفنية وتعرف بجرأتها في رسم الجسد الانثوي العاري وبأسلوبها المتميز. وقد حاولت الكاتبة أن تكتب نصا مختلفا يجمع بين الواقعي والفانتازي، ولكنها سقطت في العديد من الأخطاء الذي حاول المشرف تصويبها، ومن بين الملاحظات الاعتناء بالبداية والتخلص من الثرثرة والكلام الاستعاري والابتعاد عن الجمل الشعرية والتراكيب الجاهزة.
كما نبّه إلى ضرورة الاعتناء بالمضمون في الانتقال من الذاتي إلى الجماعي، وعلى ضوء هذه الملاحظات التي اشترك في صياغتها المشاركون يمكن تصحيح النص وتصويبه والاشتغال عليه ليكون جاهزا للقراءة في المرة المقبلة، وقبل إغلاق أبواب البيت، كان أهله على موعد مع لقاء متميز جمعهم بالشاعر والمترجم والروائي التونسي جمال الجلاصي، الذي يحتفل بصدور روايته الثانية «بأي العربان «التي تحتفي بالمناضل التونسي علي بن خذاهم، ودار الحوار حول التوثيق وحدود العلاقة بين التاريخي والروائي.
يقول جمال الجلاصي إن تطرقه لعلي بن خذاهم هو لأنه شخصية درامية عاش تناقضا بين مبادئه وقيمه وبين المصير المأساوي الذي انتهى إليه بحبسه في كراكة حلق الوادي.
وعن علاقة روايته بالثورة في تونس أكدّ جمال أنّها لا علاقة لها بالثورة لأنه انتهى منها منذ سنة 2009.
وعن مشاريعه المقبلة أضاف، أنه يعمل على رواية أخرى تتطرق للمناضل الكبير الزعيم النقابي محمد علي الحامي.
هذه إذن أجواء «بيت الخيال» المشروع الذي يرمي إلى أن يحوّل الأدب إلى عادة اجتماعية، جزء من اليومي المعيش والخروج به من البرج العاجي ومن أيدي النخبة، غايته الكبرى أن يكون الأدب كما يرغب كمال الرياحي «لكل من هبّ ودب» لم لا! وعوض ان يرفع شباننا رشاشات ومدافع يرفعون أقلاما ويكتبون أدبا .
ناقدة تونسية
ابتسـام القشّوري