عندما نلاحظ استخدام الزهور في القصائد الشعريّة المُعاصرة، فإنّكَ تلامس جوهر التعبير عن جماليّة المعنى الكامن في مفردة الشاعر ورمزيّتهُ التركيبية للوصولِ إلى صهوة الجماليِّ، الجماليِّ المقتبس من الطبيعة التي هي المثال الأسمى للجمال بما تحتويه من شجرٍ وزهرٍ وطيرٍ وماءٍ وريح.
القرنفل: هو زهرٌ جميلٌ يؤجل رحيقهُ وهو الزهر المؤجل وذكر في الشعر العربيِّ كثيرا مثلا: عن محمود درويش في رائعتهِ «مديح الظل العالي» يقول: إذهب فقيراً كالصلاةِ / وكالنهرِ في دربِ الحصى / ومؤجلاً كنقرنفلة. إذن استخدم الشاعر زهرة القرنفل كرمزيّةٍ تدلُّ على التأجيل إلى موعدٍ ما، هو موعدٍ مع الرحيق والنمو الفائض بالجمال من نبض زهرة. هي بتأكيد زهرة القرنفل المشبعة بالرحيق والمثقلة بالعشق وترشحُ ألواناً جميلةً تعطي الصورة الشعرية أيضاً روحاً جديدةً في التصوير الشعريِّ الرائج.
شقائق النعمان: زهرة حمراء كلون الدم وهي ترمز إلى الشهادة والوفاء والانبعاث من جديدٍ كوجه الشهيد حين يسيل دمهُ النابض في سبيل الحق والحلم والأرض، ذُكرت هذه الزهرة مراراً وتكراراً في شعرنا العربيِّ كنداءٍ إنسانيٍّ للتراب الذي تلوّن بلون ٍ داكنٍ وسط الغروب، فيحاول الشاعر الباحث عن المعنى المتوّج بالشقائق فيرمُزُ بذلك إلى أنّ دماء الشهداء انبعثت من التراب مثلما تنبعثُ شقائق النعمان حمراء في صورة زهرة وهنا أيضاً تكمنُ فلسفةِ الصورة والمعنى معاً، وربما في هذه الزهرة التي هي رمز الجمال وفي الوقت نفسه تحمل لوناً أحمر يخيّمُ فوق التراب ليكتمل الجوهر في التعبير الشعريِّ عن رمزيّة الدم والأرض والبزوغ من رحم الحياة إلى حياةٍ أخرى، ملأى بالأصالة والإباء الإنسانيِّ .
الياسمين: زهور صغيرة بيضاء لها رائحةٌ جميلةٌ وهي عادةً تعانق النوافذ والأبواب وسياج الحدائق صعوداً جماليّاً، وهي عادةً تقيم علاقة حميمةً مع الليل فإنها تبعث رحيقها الروحي في الليل وتملأ أرجاء المكان لتدلّ العابرين على وجودها وألقها العابق بسحرٍ خفيٍّ، وهي أيضاً تعانق البيوت وتحتضنها في حنين الأم إلى جنينها الأول، ذكرها الشعراء كثيراً في شعرهم ولعلّهم أبدعوا في التصاوير الشعرية الابداعيّة من خلال رمزية هذه الزهرة التي ترمُز غالباً إلى الحب والحنان الدافئين، خصوصاً لأنّ علاقتها بالليلِ كعلاقة العشّاق به، فاختارها مثلا الشاعر الراحل نزار قبّاني عنواناً لقصيدته الرائعة: طوق الياسمين / شُكراً لطوق الياسمين وضحكت لي / وظننتُ أنّكِ تعرفين معنى سوار الياسمين /. هُنا أضاء قبّاني على معنى الياسمين مخاطباً حبيبته في ترتيلة شعرية جميلة تحمل رمزيةً هذه الزهرة وتركيبتها الفنيّة في القصيدة المهداة إلى حبيبته. وفي السياق ذاته أيضاً اختار محمود درويش عنوان قصيدته الغزليّة: «ياسمينٌ على ليل تمّوز» إذاً هُنا يتبلور المعنى في رمزية الزهر بشكلٍ عام وكيفية استخدامهُ في الشعر، ولكل شاعرٍ رؤاهُ المختلفة في النظر إلى مشهديّة الوردة والمعنى معاً.
الأُقحوان: زهرة صفراء أو بيضاء تأتي على شكل أسنان المنشار، منه البابونج وكثُر في الأدب العربي تشبيههُ بالأسنان بالأبيض المؤلّل منهُ: هُنا نذكر بيتا شعريا للبحتري: كأنّما يبسمُ عن لؤْلُؤٍ / منضّد أو بردٍ أو أقاحْ/ أي الأقحوان، واسمهُ عند فلاحي البساتين في مصر (حوانٌ)، وفي الشعر أيضاً ذُكر كثيراً في معناهُ وموسيقيةِ أحرفهِ وجماليةِ نطقها لاسيما الحاء والنون وهذا ما يحتاجهُ الشاعر أحياناً لتتويج لغتهِ بجماليةِ المعنى في استحضار ألفاظ جديدة في التعبير والتركيب داخل النص، عن الشاعر الكبير الراحل إيليا أبو ماضي في قصيدةٍ لهُ ذكر فيها الأقحوان قال: لم يسع سري فؤادي/ لم تسع المعاني/ فقصدت الغاب وحدي والدّجى ملقى الجران … يا لآمالي الغوالي… ساقني روح خفي نحو ذيّاك المكان/ فإذا بالسرّ أضحى زهرة من أقحوان. ما هو هذا السر يا تُرى الذي أضحى زهرة من أقحوان؟ المخبّأ بها والنائم معها في جمالها الشاهق المصور على شكل شموسٍ صغيرةٍ بيضاء/ صفراء تضيء وهج البراري وتضيفُ على الطبيعة ألقاً وعطراً وحريّة.
البنفسج: زهرة بنفسجية اللون وتوضع غالباً على القبور وهي أيضاً زهرة القبور، ولذلك هي زهرة المحبطين.. توحي بالموت والجنائز، ذكرها الشعراء كثيراً وتحدّثوا عنها وخاصةً في رمزيّة الموت في المفردة الشعريّة ولاسيما تلك المفردات التي تشيرُ إلى حالة الحزن والألم والخوف، فذكرت هذه الزهرة على سبيل المثال في شعر سميح القاسم يقولُ: مواسم البنفسج/ إحكي للعالم إحكي لهُ / عن بيت كسروا قنديله عن فأس قتلت زنبقة وحريق أوْدى بجديلة / أحكي عن شاة لم تحلب عن عجنة أمٍّ ما خُبزت عن سقفٍ طينيٍّ أعشب/ إذن نلاحظ في الأبيات التي ذكرناها هناك صوتٌ خافتٌ تصحبهُ شكوى وتألماً على ما حدث في بيتٍ كسروا قنديلهُ فأمسى أسير الظلام والصمت في حالةٍ بكائيّةٍ تعلو وتهبطُ، فالقصيدة قد حملت عنوان «مواسم البنفسج» من هذا العنوان نستلهم ويراودُنا وجه الموت ومعناهُ وما يحتويه من قلقٍ وخوفٍ في ملحمة الوجود والرحيل، والبنفسج الذي يغرسُ على قبور الذين نحبّهُم، وجاءت زهرة البنفسج مراراً وتكراراً في شعر محمود درويش أيضاً في أروع استخدامها عندما قال: تقول ُريتا: هل نتزوّج؟ / نتزوّج يا ريتا عندما ينمو البنفسج على قبّعات الجنود. وفي الجداريّة أيضاً عندما أوصى بألا يضعوا البنفسج على التابوت لأنهُ زهر المحبطين، بل أوصى بأن يضعوا بدل البنفسج سبع سنابلٍ إن وجدت، هي حالة خروج من رمزية البنفسج للدخول في رمزيّة السنابل المبشرة بالحياة التي تناقض زهرة البنفسج في الاستخدام والمعنى الدال عن تجربة الشاعر ومهارته الفنيّة في التعامل الشعري مع الزهرة.
وأخيراً خمسة زهور التي ذكرناها في بحثنا الملخص وعن كيفية استخدامها كما وردت في شعرنا العربي المعاصر، لعلّها أكثر الزهور استخداماً من خلال شعرائنا العرب وتتكرر كثيراً في القصائد طبعاً بشكلٍ ملخصٍ، فهُناك بالطبع آلاف الأنواع من الزهور المذكورة في الشعر لا شكّ في ذلك مثل: الخُزامى «وهي قليلة الرائحة» ومثل زهرة الأرجوان «شديدة الحمرة» التي استخدمها الفينيقيون في صبغ الملابس، والرياحين، والغار، وتوليب، والجوري، البيلسان، والآس «التي ينمو نصفها في الماء والنصف الآخر خارج الماء»، وهناك أيضاً الكثير من جماليّات الزهور وكنوزها.
شاعر فلسطيني
باسل عبد العال