لم يكن تدمير الآثار التي يحتويها متحف الموصل على يد عصابات ما يعرف بـتنظيم «الدولة» حدثاً عابراً، فبعد عدة تفجيرات طالت مناطق أثرية؛ تاريخية ودينية، مثل جامع ومرقد النبي يونس، وجامع النبي شيت، وغيرهما الكثير، قام رجال هذا التنظيم بجمع أهم التماثيل في الباحة الخارجية للمتحف وتدميرها بالفؤوس والسيوف التي يحملونها، ومن ثمَّ قاموا بإحراق المتحف بالكامل، في خطوة عدها كثيرون محاولة لمسح التاريخ العراقي بالكامل، في حين أكد آخرون، منهم الكاتب سعد محمد رحيم على أنهم «يقتلون الزمن العراقي، البشر والطبيعة والثقافة والحضارة والمستقبل، نرى ولا نفعل شيئا، كأننا مخدرون».
المتحف الذي افتتح عام 1952 من قبل المملكة العراقية ليضم أهم المعالم الآثارية. في بداية افتتاحه كان مقتصراً على قاعة صغيرة، إلا أنه تم إنشاء المبنى الجديد لمتحف الموصل الموجود حالياً عام 1972، إذ ضمت بنايته الجديدة 4 قاعات، إحداها للآثار القديمة وأخرى للآثار الآشورية وثالثة للآثار الحضرية والأخيرة للآثار الإسلامية.
وفي خطوة مفاجئة، افتتح رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي المتحف العراقي وسط مدينة بغداد بعد إغلاقه على إثر تدميره بعد دخول القوات الأمريكية لبغداد في نيسان/إبريل 2003، وعدَّ مراقبون هذه الخطوة على أنها رد على تدمير متحف الموصل، ومحاولة للمحافظة على الآثار العراقية التي تم جمعها من دول عدَّة خلال الاثنتي عشرة سنة الماضية.
بيانات
في بيان أصدره اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، أكد فيه أن جريمة تنظيم «الدولة» تؤكد للعالم أجمع بشاعة الممارسات البربرية المتوحشة التي تقوم بها هذه العصابات، وللأسف تحت لافتة «الإسلام السياسي» وباسم الدين الإسلامي الحنيف، دين التسامح والمحبة والإخاء وهي ممارسات لم يسلم منها بشر ولا حجر، ولا طفل ولا امرأة. فقد انتهكت عصابات «داعش» وتنظيمات «القاعدة» كل القوى التي تحالفت معها جرائم يندى لها تاريخ الإنساني، فقد قامت بعمليات الإبادة العنصرية ضد شرائح كبيرة من شعبنا العراقي.
وأضاف البيان، أن جرائم عصابات «داعش» الإجرامية التي فاقت كل تصور، تتطلب اليوم منا جميعاً موقفاً وطنياً وعربياً وإقليمياً وعالمياً موحداً، لإدانة هذه الجرائم ووضع حدّ لوجود العصابات الإرهابية والتكفيرية التي دنست ترابنا الوطني، وأهاب الاتحاد بالمنظمات الثقافية والاجتماعية ومنظمات حقوق الإنسان للوقوف ضد الهجمات المتوحشة بموقف موحد، وداعياً منظمات الأمم المتحدة كافة ومنظمة اليونسكو بشكل أخص للتضامن مع شعبنا العراقي، أسوة بما فعلته عند إقدام عصابات «القاعدة» وطالبان في أفغانستان على تدمير أحد التماثيل البوذية في أفغانستان.
كما طالب الاتحاد المثقفين والكتاب والإعلاميين والأكاديميين العرب إلى موقف تضامني واضح، و»نعلن أننا سوف نقاضي أمام القانون والتاريخ كل أولئك الذين دعموا هذه العصابات بالمال والسلاح والفتاوى التكفيرية المضللة، التي هيأت المناخ لصعود هذه التنظيمات الإرهابية المستذئبة.
من جانبه، طالب اتحاد الأدباء والكتاب في مدينة النجف الأشرف في بيان أصدره بعد حادثة متحف الموصل الجهات المعنية في العراق والمنظمات الدولية للتدخل بقوة من أجل المحافظة على إرث بلادنا ومنع استهدافه، سواء بالتدمير أو بالسرقة، كما طالب مجلس الأمن الدولي وجامعة الدول العربية ومنظمة اليونسكو والمنظمات الإقليمية والدولية ذات الصلة، بإدانة هذه الجريمة بشكل واضح، والعمل على وقف استهداف تراث حضارة وادي الرافدين وحضارات المنطقة، فضلاً عن استهداف شعوبها الآمنة ومقدراتها ومستقبلها. وأضاف البيان: ولا يسعنا في أجواء هذه النكبة الثقافية الأليمة إلا أن ندعو العراقيين كافة على اختلاف مكوناتهم وطوائفهم وتوجهاتهم السياسية والفكرية، إلى توحيد الجهود من أجل درء خطر الإرهاب، والمسير بقدم ثابتة لتحرير مدننا الحبيبة من تنظيم «داعش» الإرهابي وأذنابه وإغاثة أهلنا وعيالنا فيها، وإنقاذ تراثنا وآثارنا وثقافاتنا من خطر معاول الهدم ونيران العبث والهمجية التي تهددها ،مع رفع الصوت عالياً لتأكيد ثقافة السلام والتوادد بين مكونات شعبنا العراقي الحبيب.
مثقفون وآراء
حدد الشاعر أحمد عبد الحسين مواقف عدَّة تبياناً حول خلفيات ما حدث، قائلاً إن تدمير المتحف كان لسبب عقائدي كما هو واضح (نص قرآني أحيت «داعش» تطبيقه بعد أن أماتته البدعة طوال قرون)، وحرق مكتبة الموصل كان لسبب عقائدي هو الآخر (كتب شركية)، ومن ثمَّ فإن الذبح والسلخ سببه عقائدي على الأغلب (رافضة ومرتدون ونصارى وكفرة)، مضيفاً أن وجود «داعش» نفسه والتفاف الإرهابيين حوله ذو جذر عقائدي (إحياء دولة الخلافة). ولم يتوقف عبد الحسين عند تصرفات «داعش»، بل كان في الضفة الأخرى من هذا التنظيم الحكومة العراقية، مشيراً إلى أن الدولة العراقية اليوم يحكمها إسلاميون عقائديون (أغلبهم شيعة وهم يتصرفون أيضاً بوحي من عقيدتهم)، وتدمير تمثال أبي جعفر المنصور ثلاث مرات كان سببه عقائدياً كما تعلمون، والأكثر من هذا سخرية: عدم ترميم مسرح الرشيد (والفنانون يعرفون ذلك) سببه عقائدي لأن فيه اسم الرشيد قاتل الإمام الكاظم، حدّ أن أحدهم اقترح على الوزارة وقتها أن يبدلوا الاسم ليرمموه، كما أن إهمال شارع الرشيد للسبب نفسه، وكراهية إسلاميي الشيعة لبغداد بسبب جذرها الخبيث، لأن مؤسسها هو ذاته قاتل الإمام الصادق، فضلاً عن سكوت السياسيين اليوم عن تدمير متحف الموصل سببه عقائدي: لا يستطيع أغلبهم الدفاع عن صنم! خوف أن يأثم.
ويتذكر عبد الحسين خضير الخزاعي حين رفض الدخول لمعهد الفنون لأن فيه أصناماً وأراد مرة أن يلغي درس النحت… مؤكداً أن وراء كل ذلك تقف أسباب عقائدية، «العقيدة تحركنا، العقيدة تؤرجحنا ذات اليمين وذات الشمال، العقيدة تمسح بنا الأرض وتلغي وطننا كيفما شاءت، وتدمر تأريخنا وتحبسنا في الحضيض حيث ينبوع العقائد، لكن في حرب العقائد هذه لا يخسر إلا من كان بلا عقيدة… العقائديون أقوياء، قوتهم أنهم لا أوطان لهم، الماضي لهم، والمستقبل (سيرثون الأرض كلها يا زلمة) والحاضر (عيش رغيد لم يحلم به فرعون)، يخوضون حرباً مع بعضهم وقودها الناس والحجارة: الناس الذين لا عقيدة لهم، والحجارة (التماثيل التي هي تأريخنا)، وأنت يا من لا تملك عقيدة؟ ماذا يفعل الحمل بين هذه الأسود؟ مضحكة حرب العقائديين التي يذهب ضحيتها الأوادم».
في حين خاطبت الروائية لطفية الدليمي البرلمان العراقي الذي وصفته بالمتحجر «لم يعد هنا عراق أيها البرلمان المتحجر، أيتها الحكومة النائمة، أين أنتم مما يجري؟ السبايا من بنات وأمهات ما زلن في زنازين الوحوش، المدن ما زالت تئن تحت أحذية المتوحشين، الهوية العراقية بفضلكم وبفضل «داعش» ستصبح خبراً في كتب المؤرخين، أين أنتم يا سراق العراق يا محاصصاتيون؟ ألا تستحقون الرجم وأنتم تسلمون العراق وحضارته لـ»داعش»؟ أم أنتم بهذا فرحون؟ فرؤيتكم للآثار الحضارية تلتقي مع «داعش».. ألم يقل وزير منكم عن آثارنا إنها الأصنام، اللات والعزى وثالثتهم مناة الأخرى؟ ويلكم من لعنة الزمن، ودموع البشر وآهات الحجر».
الشاعر قاسم السنجري دخل بعد العاشر من حزيران/يونيو العام الماضي في مراجعة للكثير من المفاهيم، ابتداءً من الدين وبقيت اللائحة مفتوحة، وقبل يوم الخميس 26 شباط/فبراير كان يقول «البعثات الآثارية (سرقت) آثار العراق.. أما الآن فأقول «أخذتها» واندحر توصيفهم بالسرّاق… البعثات الآثارية أخذت الكثير من الآثار وتركت لنا نسخاً مقلدة من التمائيل واللقى الأثرية، وكنت أتمنى لو أخذتها كلها بدل أن يهدمها «داعش» بقلب حاقد على الإنسانية».
وفي رواية «الأمريكان في بيتي» للروائي والقاص العراقي نزار عبد الستار يتمثل السارد ظاهرة العنف الذي يتوجه نحو المعالم الثقافية في مدينة الموصل، بعد عام 2003، فيطال بالتخريب سينماتها ومكتباتها وآثارها، من قبل بعض المتطرفين والمسلحين، كما يطال بالسرقة والنهب وثائق أثرية كانت محفوظة في بعض مكتباتها، من قبل القوات المحتلة؛ حسبما يتحدث الكاتب علي كاظم داوود، مضيفاً أن هذا النمط من العنف يمكن تسميته بالعنف الحضاري، وعلى الرغم من اختلاف مصدريه (أي الأمريكان والمسلحين المتطرفين)، والتباين الواضح بين أساليبه (السرقة من قبل الأمريكان، والحرق والتدمير من قبل المسلحين) لكنه يتوافق ويتطابق في نتائجه ليشكّل مساراً عنفياً واحداً؛ كما أنه يتشابه في كونه نابعا من ذات الهمجية والاستهتار بالإرث الحضاري والثقافي، والرصيد التراثي الذي تمتلكه هذه المدينة، والاستخفاف بمشاعر أبنائها، وما قد يلحق بهم جراء هذا الفعل العنفي.
اليوم نشهد ذروة هذا النمط العنفي، في مدينة الموصل بالذات، في أعمال التخريب والتدمير والتفجير للآثار والمباني الأثرية التي تزخر بها هذه المدينة العريقة.
من جانبه يتساءل الكاتب كاظم مزهر عن أيّ دولة من الداعمين للإرهاب أوحت لـ»داعش» بتدمير تراث العراق الحضاري وشواهد التأريخ؟ مبيناً أنه لا بدّ أن العراق يغيظها كلما سمعت أو قرأت في بطون الكتب أنه يُدعى بلد الحضارات. ويضيف: لابدّ أن هذه الدولة بلا تأريخ قط، أو تملك تأريخاً هشّاً يتطاير في الوديان السوداء المظلمة كلّما هبّت عليه رياح الرافدين… لو كان هذا الفعل أصيلا في عقولهم (ولا شكّ بسوداويتهم) لأنجزوه منذ حزيران/يونيو الناتئ في عدد الشهور: من أوحى لهم؟ أم أنهم أيقنوا قرب الرحيل؟
صفاء ذياب
القدس العربي