في الساحة الزلِقة المليئة بالفوضى والتناقضات، والمسماة الساحة الثقافية العربية، لا تنتهي المفارقات المضحكة المبكية، هذه المفارقات التي تؤسَّس على ثنائية «الأدب والذهب»، أما الأدب فنعرفه، كما في تعريفات الأبنية العليا للغة، والنشاطات الفكرية التي قعَّد لها المُنظِّرون منذ المعلم الأكبر سقراط، وحتى ناعوم تشومسكي وآخر نقاد ومُنظّري ما بعد الحداثة. بينما الذهب- الذي لا يقترن اسمه سوى «بالمحلات».. محلات التجارة، ومحالات الإكسسوارات، ومحلاَّت الزينة فقيمته المادية الصرف لا علاقة لها بالأبنية العليا «ولا السفلى»! للأدب واللغة. وهُنا مكمن التناقض بين حقلين لا يُفتَرَض أن يلتقيا بهذه القوة التي تصب في اتجاه واحد هو «قيمة العمل الأدبي»، الذي لم يعد يُقيَّم مؤخراً على الساحة الثقافية العربية سوى بمسمى الجائزة التي نالها أو رُشّح لها أو القوائم القصيرة التي وصل إليها، مع اختفاء عوامل أخرى يُفترَض أن يُحتكم إليها عند العودة إلى عمل أدبي للحكم على قيمته، كقيمته الحقيقية الكامنة فيها، رأي النقَّاد «المحترمين» والذين لم يسيروا على حبل ثنائية هذه اللعبة الجهنمية- الأدب والذهب».
من هنا، ومن خلال معايشةٍ طويلة لي في الوسط الثقافي العربي، أستطيع اليوم أن أقول إن هذه الثنائية انتصر فيها «الذهب» على قيمة الأدب، والعمل المُقدَّم لإثراء وعي الناس وتعميق حسهم الجمالي بالحياة أو إكسابها بعداً جديداً غير موجودٍ في الواقع. وليت هذه المعادلة انتصر فيها الطرف «الأقل قيمة» على الآخر، المناط والأساس والأقيم، على أساس من قوة الواقع، إنما بين الطرفين لا بد من وسطاء «مستنيرين»، سماسرة نقد، وتُجّار نظريات، ومثقفي ضرورة!
كنت حاضراً في إحدى المرات لقاءً جمعني بمثقفين عرب، يشغل أحدهم منصباً في رئاسة تحكيم إحدى جوائز الثقافة، كنت آخر الحاضرين، فلم أشهد اللقاء من بدايته، بين الحاضرين رسام كاريكاتير، وصحافي يكتب بالقطعة كونه لا ينتسب إلى مؤسسة، وشاعر، و»مثقف» حُر – كما عرّف نفسه- وشاعر ثانٍ، آخر قصيدةٍ كتبها منذ عقدين! بعد أن انزاح الكلام على الكلام، وقبل أن يأتي النادل بحساب المشروبات المنتهية، مال المثقف المؤسسي الذي يرأس الجائزة على المنتديين في هذا الجمع، وقال لهم: ما رأيكم أن تحكّموا دورة هذا العام من المسابقة؟ تطلّعت العيون، ودارت الرؤوس يفكر كل منها في ما يحمل أصحابها في جيوبهم، وفي لحظةٍ وافق الجميع واهتزت الرؤوس موافقةً وترحيباً والكلمات إطراءً على المسابقة التي لم يعرفوا حتى فروعها أو آليات تحكيمها.. بل إن بعضهم لم يكن له عمل منشور من قبل، أو لديه أي دراسة نظرية أو نقدية في أحد فروع الأدب أو الفن ليحكّم المسابقة، وهكذا لم ينفضّ السامر سوى وقد وزِّعت حقائب تحكيم المسابقة على «مُحكّمي المصادفة»، وقد علمت أن هناك صديقين اعتذرا عن المجئ للمقهى.. قلت لنفسي آنذاك: لو كانا جاءا الآن لحصلا على حقيبتي تحكيم، وعلى حقيبتي دولارات أيضاً، فقيمة مكافأة المُحكِّم لا تقل عن قيمة الجوائز، بطبيعة الحال اعتذرت عن المشاركة في التحكيم متعللاً بانشغالي بالماجستير، بينما الحقيقة أنني لم أكن مقتنعاً بهذه الطريقة التي تدار بها الأمور.
تالياً لا مجال لأن يعترض أحدٌ على نتائج وتقارير هذه الخلطة العجيبة من المُحكّمين الذين لم تجمعهم النظريات والتقعيد المنهجي لمجالات الأدب والفن التي سيحكّمونها إنما جمعهم الشاي والزعتر والحلبة والنسكافيه. لن يعترض أحد على نتائج المسابقة- أياً كانت وكان محكّميها لاحقاً- لأن أعضاء هيئة التحكيم في هذه المسابقة يظلون سريين ولا يُعلن عنهم حتى بعد إعلان النتيجة، وهكذا وبعد ظهور النتيجة قد يتحسِّر مُبدع لم يصل بعمله «المستحق» إلى الفوز بأحد المراكز ويهز رأسه في إيمان وتجرُّد قائلاً « لا بد أن لجنة التحكيم لم ترَ في عملي ما يرقى إلى مستوى الجائزة. لا بأس»، من دون أن يرى شيئاً من كواليس هذه اللجنة ابنة المصادفة والمزاح والتسامر وتوزيع الأرزاق.
وذات يومٍ التقيت صديقاً مبدعاً له إسهامه القيّم في الوسط الثقافي الأدبي، شعرت بأن وجهه مُطفأ فبادرته بالسؤال.. قال لي إن عمله الأدبي الأخير وصل إلى قائمةٍ قصيرة في إحدى المسابقات الأدبية العربية ويُفترَض أن يقوم مُحكّم «مُرجِّح» باستبعاد أحد الأعمال الخمسة التي وصلت إلى هذه القائمة لتفوز الأعمال الثلاثة الأخرى، أو الأربعة في حال كان هناك مركز مكرر، فقلت له إنه يفترض به ألا يحزن لو لم يفُز، فهو دارس للنقد ويعرف أن مسألة الحُكم تلعب فيها الذائقة الشخصية للمحكم دوراً كبيراً في ترجيح عمل من آخر، إضافة إلى خلفيته المعرفية وتوجهه الفكري وقناعاته الإيديولوجية.. إلخ. فقال لي مبتسماً بمرارة إنه يعرف كل ذلك، ولو كان حدث لما كان حزيناً على هذا النحو، ولكنه ذهب إلى الهيئة التي تمنح الجائزة وقابل رئيسها، وقال له إنهم يعرفونه جيداً، وهو يكتب في مؤسسة ثقافية منافسة، ولو كانوا منحوه الجائزة، لقيل عنهم إنهم أعطوه إياه من باب المجاملة والمحاباة لكونه يعمل في مؤسسة زميلة، وإن كانت منافسة، رغم أن عمله «يستحق الفوز»!
توقفت عند العبارة الأخيرة فقط، وقد نسيت كل ما عداها.. «رغم أن عمله يستحق الفوز»، هكذا قال له رئيس هيئة التحكيم. الناقد المُرجّح. وهو رئيس الهيئة أيضاً والقيم على الجائزة، والمسؤول عن عشر مسابقات أخرى، ومطبوعات ومعارض.. إلخ. لم أعرف بم أرد على صديقي دارس النقد، الذي وصل إلى درجات عليا فيه أكثر من «موظفي» الهيئة العجائز أنفسهم! ولكنه «الحال والمقام» هذه الثنائية التي تضع الإنسان الموهوب الدارس المتخصص أمام «الموظفين» الذين تكلسوا من قراءة قوانين العمل، وتعاملوا مع الأدب باعتباره وظيفة، مجرد حضور وانصراف وتوقيع كشوفات. والفن بوصفه مكافآت طبيعة عمل وبدل إضافي، وتوقفت قراءاتهم عند نصف قرن مضت من الذائقة الكلاسيكية التي رسّخت لمعياريةٍ تجاوزها الزمن عند الحكم على الأعمال الحديثة.
واسيت صديقي قليلاً بما يمكن أن يُقال في مثل هذه المواقف.. وذهبت من دون أن أقنع نفسي بردٍّ حقيقيٍّ يروي ظمأ السائل. وهذا هو الواقع الثقافي العربي وطبيعته.
عبر ستة عشر عاماً عشتها على ساحة الثقافة العربية، حاولت فيها الإسهام بما أملك من رؤيةٍ وجهد، كتابةً ومشاركةً وسفراً لمؤتمرات وفعاليات ثقافية، لم تتغير يوماً هذه المعادلة المغشوشة في أي قُطرٍ حينما يتعلق الأمر بالجوائز: ائتِ بموظف كبير، رئيس هيئة أو دائرةٍ أو مجلة، وامنحه أمانة الجائزة، ليبدأ هو في البحث عن أصدقائه المفترض ان يكونوا نقاداً، حتى لو كانوا من مثقفي المقاهي والموظفين المتخشبين على مقاعدهم المتحجرة من عقود يكتبون صفحات بلغةٍ ميتة مكررة، وصحافيين لم يمارسوا يوماً الكتابة الإبداعية، وضع قواعد تحفظ سرية «آلية لجان التحكيم» لتغطي على كل هذا الفشل، ثم ابدأ في توزيع الجوائز على من اختارته يد المصادفة والحظ ولا بأس من بعض «التوزيع الجغرافي» المتوازن بين مشاركي البلدان المتسابقة لتوهم المتابعين بأمرين: أن المسابقة ناجحة والإقبال كبير من مختلف البلدان، وأن هناك عدالة منهجية واهتمام بقراءة كل الأعمال من جميع البلدان، وهو ما لا يحدث أبداً، والنتيجة إحباط الكثير من المبدعين الموهوبين الذين أدارت «جوائز المصادفة» وجها عنهم، لتشككهم في اجتهادهم ودأبهم والاشتغال طويلاً على مواهبهم.
على ثنائية النقد و»النقد»، أن تختفي من ساحة الثقافة العربية إذا أردنا أن نربح أجيالاً حقيقية من المبدعين المُقدرين، وعلى موظفي الأدب ونقاده المتحجرين أن يغادروا المشهد لكي تبرأ الساحة الثقافية من نفاقهم وسلطويتهم النقدية التي تدربوا عليها طويلاً في جامعات غادروها لكي يحتلوا كراسي المنح والمنع، والاعتراف بمبدع وتهميش آخر، عليهم على الأقل أن يغادورا هذه الكراسي إذا أرادوا أن يكونوا نقاداً أحراراً وأصحاب مواقف. لا أصحاب نقدٍ في المصارف، وأصحاب مقاهٍ وجلسات ومكاتب فخمة واسعة لا يزورها سوى الفراغ والوهم.
إن المبدع الحقيقي مكانه على يسار كل سلطة. لا أن يتحرك من مركزها، ليُقصي ويُقرّب، ويمنح ويمنع، في مسابقات أحرى بها أن تكون «أكشاكَ» والقائمون عليها باعة أوسمةٍ وشهادات.
كاتب مصري
حمزة قناوي