رغم هيمنة المرتهنات الأيقونية الماضوية على الفعل الثقافي العربي، لكن تبقى المرتهنات السياسية القائمة (فعل السلطة) هي الأشد ضررا وتجريفا بحراك هذا الفعل، وأحد أهم معوقاته التنظيرية والتطبيقية.
وإذ يبدأ الفعل الثقافي بجهد تنظيري، قبل أن يتحول لفعل تطبيقي، نرى أصحابه يصطدمون بإرتهانات الأيقونات المقدسة (ماضوية فقهية وقيمية اجتماعية وشعاراتية سياسية، تكتسب سلطتها من رهبة سطوة الحكومات) تكبح روح التصميم والحماس لإنتاج هذا الفعل في نفوس وعقول أصحابه، قبل أن تكبحها في إرادتهم وقناعاتهم وإيمانهم بها.
تولد السلطة الأيقونية في ظل هيمنة السلطات القمعية، بكافة أشكالها التي أشرنا إليها أعلاه، وتستمد استمرارية فعلها وحصارها للعقل وفعله الثقافي من حالة التخلف وروح الاستسلام التي تحكم أي مجتمع من المجتمعات، باستمرار هيمنة الروح الكولونيالية التي تحكم عناصر السلطة، في ظل غياب المؤسسات التي تكبح شطط عناصر الحكومات الديكتاتورية، (وهي الصيغة الغالبة لشكل الدولة في أغلب الدول العربية) بسبب تكريسها للشكل الأيقوني لذاتها من الأساس، في ظل غياب التعددية السياسية وتداول السلطة السلمي. فهذه الحكومات تحيط نفسها بقداسة أيقونية من الأساس لتقطع على معارضيها الطريق في المطالبة بتداول السلطة، فكيف لا تصنع لهم عشرات الأيقونات الترهيبية التي تحاصر الفعل الثقافي المنتج لتفكير غير تفكيرها المكرس للسلطة؟
وبالتأكيد، وبتراكم الخبرة، تعمد السلطات السياسية للتفنن في استحداث أشكال وصيغ سطوة الأيقونات، ولا تتورع عن أن تخلع عليها أشكال القدسية، الدينية والأيديولوجية والقيمية والاجتماعية، من أجل تحقيق سطوتها الترهيبية ـ الأيقونات ـ لتحقق من خلال سطوتها سطوة إحكام قبضتها على السلطة.
وبالتأكيد فإن عملية التفكير في وإنتاج الفعل الثقافي يكونان من بين أولى أولويات أهداف الترهيب الأيقوني، لما يمثله ويتمتع به الفعل الثقافي من قوة تجريفية لأوهام السلطة وسطوة أيقوناتها وقداساتهما الكابحة لتململ الوعي ضد قهرها وقمعها للإنسان وحريته وحرية تفكيره وسعيه لتأسيس الاشتراطات والمفاعيل الثقافية التي تؤسس لدولة المؤسسات واحترام حقوق الفرد الإنسانية والمدنية والتعبيرية والسياسية، التي يعتبر التداول السلمي للسلطة، أول ركائزها واشتراطاتها.
ولكون الإعلام، بكافة حقوله ومنافذه، هو أحد السلطات الأيقونية للحكومات العربية وأدوات تكريسها وكبحها، فقد تحول بدوره إلى صانع أيقونات هو الآخر، ومروج لرهبة هذه الأيقونات، بما فيها أدوات وعناصر الفعل الثقافي الذي يتماشى ويكرس توجهها الايديولوجي، عن طريق منع الصحف ووسائل الإعلام المعارضة، وإطلاقها ليد بطانتها (الثقافية) في وسائل الإعلام، التي تفرض رقابة مستحكمة على أي توجه ثقافي حر ويتعارض مع توجه السلطة الايديولوجي، إلى جانب ترويج هذه البطانات للأيقونات الثقافية التي يجب أن تسود وتعظم كوجه وشكل ثقافي مقدس لا يدحض ولا يشكك بصلاحه وأهليته وقداسته، كنسق ثقافي لا يعلى عليه ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وهذا ما عمل به ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ البعثيون إبان حكم صدام حسين في العراق، إذ احتكروا وسائل الإعلام لأنفسهم وقصروا إداراتها على بطانتهم المثقفة (كسامي مهدي وماجد السامرائي ورعد بندر و….) والذين لم يمارسوا من الفعل الثقافي غير قصر النشر على الأسماء البعثية السلطوية ومن والاهم في الخنوع من أشباه المثقفين، من أجل تكريس التوجه الايديولوجي لحزب البعث الحاكم وقمع أي توجه ثقافي معارض، أو يسعى لتأسيس ثقافة حديثة, وهذا ما صنع من أسماء تلك البطانة أيقونات (ثقافية) لا يجرؤ أحد على المساس بقدسيتها الثقافية.
وفي الحقل الأدبي الصرف، وبسبب من طبيعة الشعب المصري الاحتفائية بابنائه (وهي فضيلة تحسب له في تعظيم شأن ابنائه)، وطبعا لأسباب تاريخية أيضا، صنع الإعلام المصري من نجيب محفوظ أيقونة مقدسة (بلغت حدود الوثنية) في حقل الرواية، لم يكسر هيبتها حتى ظهور الطيب صالح بروايته الكبيرة «موسم الهجرة إلى الشمال»، التي تعد من بين أفضل مئة رواية في العالم إلى يومنا هذا، في مطلع سبعينيات القرن الماضي، خاصة أن هذه الرواية الكبيرة كانت قد كسرت طوق المحلية، (الذي غاص فيه محفوظ إلى أذنيه) ولأول مرة في تأريخ الرواية العربية باتجاه الكونية والعالمية في الطرح والمعالجة، فنيا وتقنيا ومضمونا، وعلى خلاف محلية نجيب محفوظ التي لم يستطع الخروج بها من طوق الحارة المصرية على الإطلاق.
وعليه فإن الفعل الثقافي العربي محكوم بحصار أيقوني (مقدس) هو أشد مضاضة من حصار مفاهمية التابوهات التي تتحزم بها المؤسسات الثقافية ـ السلطوية لمواجهة الفعل الثقافي وردعه وتحجيم دوره، لأن القداسة الإيقونية تمارس دورها الرادع بشكل مضمر، يصدم المثقف بشكل صامت أو بدون الضجة التي تمارس بها التابوهات دورها المعلن في الكبح. بمعنى أنها تمارس دور الردع والرد بدون عنف أو دليل مادي ظاهر، لأنها تمارس فعلها من خلف حجاب ما ارتأت السلطة رفعه إلى مستوى رهبة وانغلاق المقدس الذي لا يجوز المساس به، ولو لاعتبارات غير دينية، اجتماعية تارة وقيمية أخرى… وتحت يافطة الأمن والسلم الأهلي والهدوء المجتمعي ثالثة، وهي الأشد ردعا على الوجدان والنفس.
ولعله من نافلة القول أن نذكر هنا أن الارتهانات الأيقونية هذه هي التي مارست اضطهاد المثقفين وفعلهم، مع بداية انتفاضات وثورات التحرر العربي من الهيمنة الاستعمارية، في منتصف القرن الماضي، خاصة تحت أنظمة العسكر التي رهنت نفسها للتوجه السوفييتي (نكاية بالتوجه الرأسمالي المعلن للولايات المتحدة الأمريكية) واستوردت من فكر المعسكر الاشتراكي مفاهيم وأيقونات ثقافته المؤدلجة، كمفهوم الواقعية الاشتراكية والأدب الملتزم، ومفهوم الفن للحياة، المضاد لمفهوم الفن للفن (أول من بشر به الروائي البريطاني أوسكار وايلد) تلك المفاهيم التي لم تكن تزيد على لعبة سيطرة أيقونية وكبح أيديولوجي مارسته أنظمة الانقلابات العسكرية العربية ضد الفعل الثقافي من أجل تحجيم أصحابه وحصرهم في خندق التجويع والقهر، من أجل تركيعهم وإجبارهم على اتباع (رؤاهم) للفعل الثقافي… التي لم تكن تزيد ـ رؤية الأنظمة ـ على الدعاية والتسبيح باسم ومنجزات الحاكم الطاغية… وأيضا اختراع وتعظيم شأن المزيد من الأيقونات ورهن المثقف إليها، ككوابح لتفكيره وفعله الثقافي الإنساني والحداثوي ، الذي أول مطالبه حرية الفكر والتعبير والضمير، ثلاثي رعب الحاكم العربي حتى نهاية التأريخ العربي.
روائي وناقد عراقي
سامي البدري