ظل الشق السياسي في العمل الاسلامي شاقا على صعده الجامعة، فهما وتفكيكا وتأصيلا وتأسيسا، ليس فقط بسبب كون السياسة نشاطا معرفيا يتطور تاريخيا بتطور المجتمعات، وإنما بوصفه الحلقة الأكثر حيوية في كتابة التاريخ، فإذا كان ثمة إجماع من لدن نقاد تاريخ المعرفة الاسلامية على تأخر السياسة علما وتدوينا في الحضارة الاسلامية بسبب القمع والصراعات المتتالية حول الملك، التي شهدها المجتمع الاسلامي أحقابا عدة، وهيمنة الفقيه بمنطق الفتوى على هذا النشاط الذي يفترض أن تكون الفلسفة مهده ومهاده، فإن وقع السياسة في عقل المتأخرين من المسلمين في الجانب المتعلق بالتدوين والنقد ليس بأفضل حال مما حفل به تراث الأولين، رغم زخم التجربة في عصرنا الحالي، ونحسب الأمر مؤشرا واضحا ويتطلب تحقيقا ميدانيا وتدقيقا ابستمولوجيا من المشتغلين بمسألة الاسلام السياسي، سواء في الجزائر أو من خلال مختلف التجارب القطرية عبر المجالين العربي والاسلامي.
السمة المعرفية للحركة الإسلامية
تجدر بنا حيوية الموضوع أن نظل بعض الشيء على الملامح المعرفية للحركة الاسلامية، بغية التوصل إلى تحديد نطاقات اشتغالها، ودوار ارتكازها ونقاط ارتكاسها المفجع، من خلال عديد التجارب القطرية، فالإنتاج الذي ظل يصدر عن جهازها المعرفي لعقود عدة، لم يكن مؤسسا في غالبه الأعم للمشروع الثقافي والفكري الندي للحركات والايديولجيات المناهضة له والمنافسة له في حقول الاستقطاب الشعبي والجماهيري، ناهيك عن الحوزة النخبوية.
فانتلجنسيا الحركة إن سلمنا بوجودها ظلت تعيد انتاج التراث، في مختلف ابوابه وتسعى ما استطاعت إلى تأصيله في مواجهة أحيانا غير منطقية وغير متكافئة مع العصر واشيائه، في وقت كانت الافكار الأخرى تدق ابواب اسئلة الراهن مجتهدة في استحضار الاجابات الموضوعية الممكنة. عدم تفاعل النص مع الواقع وسعي الاسلاميين لتفعيله قسرا عبر اعادة قراءه أو بالأحرى تأويل للمنجز التراثي، حتى يتحقق حضور المعنى في الواقع، ولو بشكل غير متناسق مع التاريخ، شوه خطاب الدعوة في جانبه المتعلق بالمشروع السياسي.
عموميات الخطاب الدعوي
طبعا لم يسمح هكذا سلوك في التعامل المعرفي مع التراث بتفجير خطاب الدعوة، حتى يتسنى له التمدد في مجالات المعرفة الأخرى، فاستحال بعمومياته في مجابهة دقائق أسئلة قلق الراهن إلى عالة مستديمة على التحول في الفكر والممارسة في مختلف صنوف المعرفة، ومنها الجانب السياسي الذي بقي محتبسا تاريخيا في بوتقة التفاسير الكلاسيكية للمعنى، ومتون تجارب الماضي القروسطي، مما فرض شكلا من الغربة والاغتراب التاريخي على الدعوة داخل النسق الجمعي للمسلمين اليوم، المتسم بالقطرية ومركزية الدولة الحديثة ذات الخلفية المؤسساتية الحداثية على مستوى المعنى كما على مستوى المبنى، ولعل هذه الغربة وهذا الاغتراب هو ما تسبب ويتسبب في صدام أصحاب الاسلام السياسي بحاملي شعار دولة الحداثة والمواطنة والحقوق السياسية والمدنية.
أثر التصنيفات التراثية
ومن تجليات الانحباس التراثي الذي تعانيه المعرفة الاسلامية، هو ذلك الرفض الممنهج في التجديد على مستوى المنهج، ومنه إعادة قراءة بنية التراث وتجديده وفق القفزة الكبيرة التي عرفتها المعرفة الانسانية على صعيد المناهج لا غير، فالتصنيف التراثي الحاد الحاصل حاليا والممتد عبر قرون عدة، بات هو الآخر حجر عثرة في سبيل تطور نظام انتاج المعرفة الاسلامية، فكل الحركات تتمرجع سياسيا وفق سرديات واجتهادات فقهية قديمة، هذا في ظل ضيق الافق الذي تفرضه التصنيفات التراثية للمعرفة التي كاد الحديث عن ضرورات تجاوزها أو تجديدها على الاقل يغدو من المحظورات الثابتة في حقل الاشتغال المعرفي الاسلامي اليوم.
ذاكرة فردية وافتراضية
لنأتي على واقع المعرفة السياسية للإسلاميين اليوم في جانبها النقدي التأريخي على الاقل، حيث يتبدى هول الخيبة والفراغ لحقل بكر مليء بالتجارب والأحداث، التي لا تقل أهمية وحيوية عن تلك التي شهدتها العصور الاولى للإسلام، بدءا من الحادثة التاريخية الكبرى المتمثلة في ظهور أول دستور مدني أسس لتعايش مدني مشترك، جسدته «صحيفة المدينة» كأرقى مؤشر على انبثاق فكر سياسي اسلامي مهم ، مرورا بحروب الفتنة وصولا الى سقوط الخلافة، إذ لا نكاد نلمس انتاجا تأريخيا للصراعات الدموية التي عرفتها عقود عدة من النشاط الحركي لناشطي الاسلام السياسي، بما يسمح بقراءة موضوعية لمسار عملها ومواطن النجاح والاخفاق، ويسهم في ترسيخ فرصة اندراجها في ما ينعت بالعملية السياسية الوطنية، من دون انعزال شعوري أو مرجعي أو ايديولوجي، في الوقت الذي قرأنا فيه مئات العشرات من الكتب التي تحدثت عن 11 سبتمبر/ايلول بكل دقائقه وفق تحليلات معرفية، علمية وتاريخية! طبعا إذا ما استثنينا هنا جهودا فردية عن تجارب لبعض القادة الحراكيين ومحنهم في السجون والمعتقلات في ما يصنف عادة في ادبيات الكتابة الحركية بفكر المحنة، حفلت به كثيرا خلاصات السير الذاتية، أو المذكرات، بل ربما قرأنا كتابات مؤرخة للعمل السياسي للحركات الاسلامية لكتاب غربيين أكثر منه لكتاب مسلمين أو إسلاميين، لكن الطابع الموضوعي النقدي للمسالك السياسية ذات النسق التأريخي الذي وحده من بوسعه التمكين للعقول من تفكيك ألغاز النشاط السياسي لا نكاد نعثر له عن جهد في كتابة الاسلاميين السياسيين، كالعلاقة الوظيفية مع الاجهزة الأمنية التي حتمتها في كثير من الفترات والاوضاع ظروف سياسية وتقلبات الصراع مع السلطة، كما كان الشأن مع التجربة الجزائرية، حيث يذكر الاستاذ حسن عريبي أحد أبرز من ساهموا في جسر الهوة بين السلطة والاسلاميين في الجزائر في العشرية السوداء: «ان بعض الوجوه الدعوية والسياسية من الجزائر ومن العالمين العربي والاسلامي كانت لها اتصالات دائمة مع جهاز الاستعلامات، باعتباره الطرف المفاوض للمسلحين من أجل إيجاد ارضية اتفاق بين الطرفين لتوقيف العنف الذي حصد زهاء 200 ألف من أرواح الجزائريين، منهم الشيخ محفوظ نحناح وعبد الله جاب الله، والشيخ عمر الزبير من السعودية، وغيرهم»، لكن لا أحد قرأ مقاربات ولا كتابات تشرح ما دار عبر مسار تلكم اللقاءات، وكيف كان يجري التفكير السياسي من هذا الطرف أو ذاك، إزاء بعضهم بعضا أو إزاء الوطن، وتوضح طبيعة العلاقة بين الاسلاميين والسلطة وأثرها على واقع ومستقبل الوطن وساحته السياسية.
الحوارات السياسية البينية
التوجس من آلية النقد الذاتي والانتقاد التي بها يوسم، بل يوشم العقل السياسي الاسلامي، أفرز هذا الانحصار على مستوى الكتابة السياسية البعيدة في عمومياتها الدعوية، فكل ما كتب عن العلاقة البينية داخل نطاق التيار الاسلامي وعلى قلته وفقره، انحصر في دائرة التبريري المنهجي للمسالك الدعوية المتبعة، من قبل هذا الفصيل أو ذاك، وكل يقارب تلك الخلافات وفق مسطرته الفقهية والمدرسية لا غير، هذا في الوقت الذي يظهر فيه حجم الاحداث التي تلاحقت ايام الازمة أن الأمر كان أكبر من ذلك بكثير، فكان على العقول الاسلامية أن تنأى عن أسلوب النظم العربية في علاقتها مع رعيتها وهي تراها دوما قاصرة عن فهم ابجديات سير الدولة وبالتي هي غير مؤهلة لرفع مطلب ممارسة الحق السياسي والمدني بحرية، فكذلك فعل كتاب الاسلام السياسي من معيدي إنتاج الخطاب الايديولوجي للحركة مع قواعدها الجماهيرية والنضالية، بحجة أن ذلك من شأن العلماء، وأن العالم لا يعارضه ولا ينقده إلا عالم!! موقف زللي في التاريخ الاسلامي هو هذا القائم على مزاوجة غريبة بين ما هو فقهي ثابت، وما هو فكري مستوعب لحرمة التاريخ، سبق أن استزل الاولون وكلفهم حروبا، والأكثر من ذلك جثم على العقل السياسي الاسلامي وأبقاه محنطا في ثلاجة التاريخ، فمعظم الخلافات التي حدثت بين المسلمين كانت سياسية واستوجبت بالتالي فكرا سياسيا للحل، بيد أنها ولاغراض متعددة لبست طابعا جدليا فقهيا ومرجعيا.
الكتابة الموضوعية الناقدة للموقف السياسي ظلت غائبة عن العقل الاسلامي حيث يتلبس المقدس بالمدنس بشكل مستتر على صعيدي الخطاب والممارسة الايديولوجية للاسلام السياسي.
المفاوضات مع السلطة
الأمر ذاته مع السلطة، فالواقع يشهد بأنه ليست كل فصائل التيار الاسلامي مناهضة عسكريا للسلطة، فقد شهدت بعض التجارب تعايشا بينهما بلغ حد مشاركتها الحكم، مثلما حدث في الجزائر، الاردن، المغرب والكويت، لكننا لا نلغي مطلقا القراءات النقدية الموضوعية التي تشترطها لغة العصر السياسة لتلكم التجارب من قبل العقول الاسلاموية، سواء منها المغالبة المصارعة للسلطة أو المشاركة لها في الحكم، في استنكاف غير مبرر وغير مفهوم عن نشاطي القراءة والكتابة رغم كونهما الفعلين المؤسسين حقا للتاريخ، أكدتهما لفظتا القرآن الكريم في سورة واحدة (العلق) «اقرأ» و»علم بالقلم»، وقد ركزنا في المقال على الكتابة السياسية، بوصفها ـ أو المفترض أنها كذلك ـ العاكسة لزخم التجربة بأحداثها الدامية والسلمية معا، في حين لم تكن جوانب المعرفة الأخرى بأحسن حالا من السياسة، فلا أدب استرعى اهتمام الاسلاميين ولا اجتماع ولا حتى اقتصاد، وهو ما جعلهم عُرضة للإقصاء المعرفي والتاريخي من قبل تيارات الحداثة، بحجة أنهم لا يملكون مشروعا واضحا، بل تراثا صارخا، لكونهم لا يقرؤون، وهم بالتالي لا يكتبون.
٭ كاتب صحافي جزائري
بشير عمري