هل يمكن ان تكون الثقافة صناعة على حدّ قول ادرنو؟ وهل يمكن للمثقف ان يعيد ترتيب اوراقه في ضوء توصيفات وخطط وبرامج هذه الصناعة؟ وهل يمكن ان نبدأ بإعادة انتاج بنيات ثقافية لها خصائص البنيات التحتية كما يسميها الاقتصاديون، تلك التي يمكن لها ان ترسم خارطة طريق للفاعلية الثقافية، باتجاه تصنيع اشكال متقدمة للتنمية الثقافية ولوظائف الثقافة والمثقف، والتي يمكنها ايضا المساهمة في ربط الصناعة الثقافية بصناعة المؤسسات الحمائية، وبتأمين رأس المال الثقافي والقاعدة المؤسسة لتراكم الاقتصاد الثقافي، ذلك الذي يمكنه حماية (حقوق) العقل الثقافي من اي انقلاب عسكري او سياسي او ايديولوجي قد يرميه الى النهر او الى المزبلة؟
هذه الاسئلة كثيرا ما تثار، وكثيرا ما تتحول الى فوبيا ضاغطة، لان تاريخنا الثقافي(العربي) للاسف حافل بالانقلابيين اكثر من صنايعية الوعي، وعامر بالاستبداديين اكثر من مروجي الحرية.. ما ورثناه من العسكر وصناع الحرب والايديولوجيا، والانتحاريين وضعنا امام رعب خطير لكراهية الثقافة بوصفها وعيا مضادا، او بوصفها صناعة جمالية لترميم الخراب، ولاعادة تأهيل الذائقة لكي تقرأ وتكشف وتكون اكثر شغفا بالسؤال الانطولوجي…
كراهية الثقافة المؤسسة تحولت للاسف الى سلوك عنفي من قبل الكثير من الطغاة، حدّ ان البعض بدا وكأنه يعيد صورة غوبلز النازي في التعاطي مع صورة المثقف والثقافة. هذه الكراهية عطلت الكثير من برامج العمران الثقافي، اذ ان الذين يكرهون الثقافة والمثقفين، يتحسسون من اي عمل لشرعنة اجراء المعطي العقلاني او التاسيسي للصناعة الثقافية، تلك التي قد تسهم في انماء العقل، وفي تحسين شروط اهليته وبرامجه وستراتيجياته في التعاطي مع قيم الحرية والمواطنة والجمال والفكر والدولة والحداثة..
نعم تاريخنا حاشد بصانعي الرعب والقسوة والظلم والطاعة القسرية والذين تعودوا ان يرسموا دائما طرقا خاصة وشائكة (للجلجلة) و لـ(الالغام) لكي يعبرها المثقفون اضطرارا او هروبا. هذه الطرق شوهت العقل، وحجمت وظيفته النقدية، ووضعت الوعي في ورطة شقاوته الفلسفية والعضوية، اذ لا يمكن الحياد عنها او الخروج عن جادتها، لان هذا الخروج يعني المواجهة، ويعني الوعي المفارق، مثلما يعني الخروج عن الملة والخروج من المطبخ الوطني ومشاركة الاعداء مؤمراتهم على الوطن والعقيدة والأمة.
السلطة العسكرية او السلطة الحزبية القديمة وحتى سلطات الايديولوجيا! وسلطة الفقه اليوم صنعت لنا خوفا اكثر مما صنعت لنا وعيا، وصنعت لنا سجنا اكثر مما صنعت لنا وطنا للحرية او للاطمئنان، صنعت لنا حروبا اكثر مما صنعت لنا كتبا..وهذه الصناعات الثقيلة جدا سحقت احلام المثقف العراقي وجعلته امام خيارات ورهانات قاسية، فاما الموت كمدا والقبول بكل الفروض الضاغطة بمسمياتها المتعددة، واما المنفى ضياعا او هروبا ، واما القبول بدور المهرج وصانع الاوهام الوطنية المفخخة.
وطبعا هذه الادوار الاجبارية وضعت المثقف العراقي بشكل خاص وطوال سنوات طاعنة عند مسارات غامضة ومعقدة، وفي صناديق عائلية ووطنية وحكاواتية من الصعب ازاءها التخلص من لزوجة مهيمناتها التي اقترحت لها سلطات متعددة وغريبة الطباع والامزجة، اذ اعتادت هذه السلطات على تفرض رقابتها ولصوصها وعسسها على احلام المثقفين وكتاباتهم السرية، واجر المثقفون على غوايات مضادة فيها الكثيرمن الترميز والمجاز والاستعارة والتورية وكل اشكال الاحتجاج الخفي على وضوح السلطة المرعب..
احسب ان تاريخ هذه العلاقة المريبة، هو الذي جعل المثقف يعاني من حساسية مفرطة ازاء الحرية وعاداتها وتمظهراتها، فهو يخاف في لبسه وشفرات كتابته وطريقة حديثه واصغائه وحتى شتائمه. وطبعا هذا الخوف كرس فينا فهما مشوشا للتعاطي مع اشكالات تاريخ ومع قيم الحرية والدولة والمعرفة والمقدس، وانعكس على موجهات القراءة التي تعاين وتفحص وثائق الوقائع والاحداث والصراعات، وكذلك مع ما تركته لنا التخندقات من تآويل وجذاذات لا يمكن الاطمئنان اليها والى نصوصها.
من ينقذ العقل العراقي
ازاء تلك الصورة العدمية للصناعة الثقافية ندرك خطورة الحاجة الى انقاذ العقل الثقافي، والى البحث عن سياقات عمل تضمن شرعية هذا الانقاذ.. واحسب ان صناعة مشروع للدولة الجديدة، دولة الديمقراطية والمواطنة والتعدد والحرية سيكون هو الوجه المقابل لاصطناع وجود مضاد، والى اقتراح خلاصات اكثر طهرانية، فضلا عن وظيفتها الصيانية لحماية الصناعة الثقافية من الكساد والموت والفقر والافلاس، لان هذه الصناعة ستكون مرهونة اهميتها باهمية استصدار القوانين والتشريعات التي تمكّن المثقف من ممارسة حريته ومسؤوليته ازاءها دونما رقابة قهرية، وان توسع دائرة اشتغاله وحضوره، وان تزيل عنه تاريخ الخوف العالق تحت ثيابه ووسادته، مثلما تنقذ الثقافة من صناعة المثقف المطرود والتابع والمنافق، والشروع باتجاه مواجهة اية نوايا لاعادة مظاهر الهيمنة القديمة، تلك التي تمنع عودة شطارها وعياريها، والتي يمكنها ان تحمي المثقف وتساعده على استرداد انسانيته وحريته وشجاعته، وان تشجعه على ان يكون مواطنا ايجابيا، وليس مواطنا سريا كما كنا نعهده في اجندة السلطات القديمة، تفرش له السجون اكثر مما تفرش له وسائد النوم مطمئنا.
هذا ما يفترض حقا وجود ارادة حقيقية في التعاطي مع الملف الثقافي، وفي التصدي لتاريخ وعادات من الاهمال والعطالة، مثلما هي دعوة حقيقية لكي تتبنى الدولة (صناعة) الثقافة، تلك الصناعة التي لاتحتاج الى مكائن او مواد اولية من الهند او هونولو، او حتى طباخين خمس نجوم، كل ما تحتاجه الثقافة هو يقين اخلاقي وبرامجي لصناعة واعية بامتياز السياق، وامتياز الحرية، وامتياز وضع البرامج والاهداف التي تكفل فاعلية النظام الثقافي بدءا من توصيفه، والتعريف به كجهد انساني له ثمنه واستحقاقه، وضمان شروط وجوده وحضوره، وانتهاء بتأمين كل الفضاءات التي تضع العمل الثقافي بمستوى العمل السياسي والاقتصادي، لان الدولة التي لا برامج ثقافية فيها، ولا أدوار حقيقية وفاعلة لمثقفيها في يومياتها وحياتها هي اشبه بالصحراء التي سرعان ما تصيب ساكنيها بالعطش والمتاهة والجفاف الحضاري والانساني والجمالي.
ان الحديث عن الثقافي وعن صناعته الجمالية والمعرفية لا يعني خلق مجاورات ضاغطة، بل يعني الدفع باتجاه تأصيل قيم الوجود، وقيم المعنى، وكذلك القيم التي لها علاقة بالصورة الحقيقية لمفهوم الدولة التي يتحدث عنها الجميع، لان الدولة كمفهوم هي معطى ثقافي ومؤسسي وقانوني، وهذا التلازم مابين القانوني والثقافي يعني ايجاد الشرعة الاجرائية لتوليدها، ولتحويلها الى(مادة وعي) أي مادة صالحة للاستعمال، وهو ما يعني وضع الدولة في السياق وفي التجربة، بوصفها مؤسسة، وبرامج وتشريعات، وبوصف كائنها هو الكينونة التي تعبر عن حيوتها، وعن قدرتها في الحياة، وفي التحول..
الصناعة الثقافية هي الصناعة الاكثر تعبيرا عن هذه المعطيات وعن استحقاقاتها، لانها ستكون قرينة بضرورة وجود الصناعات المجاورة مثل صناعة التعليم والدرس المعرفي، وكذلك الدرس الحقوقي، وفي خلق بنيات استيعابية للحراك المجتمعي بعيدا عن الذاكرة القهرية للانقلاب والحرب والاستبداد، وباتجاه ان تكون هذه البنيات محكومة بالقوانين وبالوعي والمسؤولية، واحسب ان الواقع العراقي في ظل تعقيدات مرحلة التحول الديمقراطي ستكون اكثر حاجة الى هذه الصناعة الفاعلة، والى برامجها وسياقات عملها، لانها الضمانة القوية للحماية وللتعايش ولضمان الحقوق والحريات العامة والخاصة…
علي حسن الفواز