في الناحية الشمالية الشرقية لمدينة روصو وعلى ضفة رافد " كرك " الشهير، يتراءى لك المعهدالعالي للتعليم التكنولوجي ( ISET ) بمبانيه الجميلة وجنيناته وحدائقه الغناء وأضوائه المتلألئة ليلا، بما
يعطيك انطباعا بأنك أمام إحدى الكليات في العالم الحديث..
وقد كان من حسن حظ هذا المعهد الذي تم بناءه على أنقاض ثانوية روصو العريقة، أن تم تصوره وتصميمه ورسم أهدافه، ثم تجهيزه وبداية الدارسة فيه على يد مدير نشط عملي باحث، من أولائك الذين يديرون المرفق التعليمي وهم يعشقون ويتذوقون مجال تخصصه، ويجدون المتعة المعنوية ( غير المادية البحتة ) في تسييره، ويعطونه كل ما يملكونه من خبرة ووقت وجهد، وقد تصور وصمم وجهز هذا المعهد على أنه سيكون قطبا معرفيا تكوينيا، ليس للطلاب الموريتانيين فقط، بل ليستقبل بعثات تدريبية من طلاب شبه المنطقة، كتلك المعاهد الدولية التي نبعث لها نحن بطلابنا وأطرنا لأجل التدريب والتكوين، واختيرت له منطقة الضفة لكونه معهدا زراعيا غابويا رعويا ( Institut Agro Sylvo Pastorale )، وفي بداية انطلاقة الدراسة به استقدم له المدير بعثات وشخصيات علمية من دول عديدة، من جنوب إفريقيا ومن كندا واستراليا، كما قام عدة سفراء بزيارته كالسفير الفرنسي والأمريكي وغيرهما، وذلك لخلق شبكة من الشركاء الدوليين، تضمن للمعهد التواصل والتبادل الدائمين مع المعاهد والهيئات العالمية المماثلة.
كان طلاب المعهد وطاقمه التدريسي يعتبرون هذا المدير " ديكتاتوريا " وإن كانت " ديكتاتورية بناءة" وتعلمون أن هناك ديكتاورية بناءة.. لأنهم ربما لم يألفوا هذا النوع من الصرامة في العمل، والاهتمام بأدق التفاصيل، والاستغلال الأمثل للوقت.. وأنا شخصيا طالني منه جانب من تلك " الديكتاتورية " عندما قدمت إليه في مقر المعهد هنا بنواكشوط أحمل سيرة ذاتية، طالبا تقديم حصص دراسية بالمعهد، فوجدته يهم بركوب سيارته في طريقه إلى روصو، حييته وشرحت له طلبي مقدما له سيرتي الذاتية، فقال ورجله في السيارة والأخرى على الأرض : هل أنت مستعد للعمل بالبالة ؟ قلت كيف؟ أنا مهندس زراعي أسأل إذا كان بإمكاني تقديم حصص دراسية بالمعهد.. فقال : أنا من سيعمل معي عليه أن يكون مستعدا لتقليب التربة بالبالة، والعمل تحت أشعة الشمس وغرس المزروعات وريها ورعايتها، إلى جانب تقديمه للحصص الدراسية النظرية.. فإذا كنت مستعدا لذلك فتفضل اركب معي فأنا ذاهب الآن إلى هناك.. ودعته شاكرا ومشجعا ومتفهما لأسلوبه ومنهجيه عمله، لأنني أدرك أهمية وقيمة ذلك، ولأنني عندما كنت أدرس بكلية الزارعة، كان الدكاترة المدرسون يشاركوننا العمل التطبيقي،كتقليم أشجار الفاكهة، وإعداد خطوط الزراعة وإعداد المشاتل وشتل البادرات وريها ومكافحة الحشائش والآفات.. كان ذلك في كلية زراعية عهد إليها بتخريج المهندسين والباحثين، فما بالك بمعهد أنشئ أصلا لتكوين الفنيين الممارسين ( les techniciens pratiquants ) وأعد منهجه التعليمي طبقا لمتطلبات المهارة ( Le savoir faire )، أي تكوين الفني المهني القادر على ممارسة العمل الميداني؟!
لكن كل تلك الأهداف والطموحات لعبت بها بعد ذلك رياح المصالح والعلاقات، وفعلت فيها أفاعيلها التي تفعلها في الكثير من أهدافنا الكبيرة لتنحرف بها عن مسارها! وحدث ما كان المدير المؤسسيخشاه، وظل واقفا دونه، من سطوة كلية العلوم والتقنيات على المعهد، والانحراف به عن مساره ومنهجه وأهدافه التي أنشئ من أجلها، ليصبح وجهة لكل من تخرج من المعهد العلمي العالي ( ISS ) أو كلية العلوم والتقنيات في تخصص البيولوجيا أو العلوم الطبيعية مثلا، ليذهب خارج البلاد في تكوين لمدة سنتين أو ثلاث، ويعد بحثا حول تأثير عنصر غذائي على نبات معين، أو تأثير حشرة على المحصول كذا ليعود وهو " دكتور في الزراعة " رغم أن تكوينه القاعدي ( la formation de base ) لم يكن تكوينا زراعيا، ويجد الطريق إلى المعهد كمدرس مشرف على تكوين وتخريج من قلنا إنهم يجب أن يكونوا فنيين ممارسين، وفي أي مجال؟ في مجال العلوم الزراعية والغابوية الرعوية! وهي المهمة التي لا يجوز أن يقوم بها غير المهندسين من خريحي الكليات أو، على الأقل، المعاهد المتخصصة في هذه المجالات.
وهؤلاء المهندسون المتخصصون، كانوا هم من بدأت الإدارة السابقة للمعهد بالتركيز عليهم في التدريس وفي الأعمال التطبيقية، كونهم مهندسون وفي نفس الوقت أصحاب تجارب عملوا في المجال الزراعي ميدانيا على مدى عقدين من الزمن، ليجدوا أنفسهم اليوم أجساما غريبة أو زوائد ثانوية غير مأسوف على أي واحد منهم أصيب بالإحباط وغادر، فالأفضلية لخريجي كلية العلوم والتقنيات! ولا تسألونا عن أسباب ذلك لأنها معلومة، ومعلوم أن لكل إدارة أذرع من الزبائن واللوبيات تُفصل كل شيء على مقاسها، وهي الأذرع التي تمتلك كلية العلوم والتقنيات أطولها واستخدمتها في إغراق المعهد بخريجها كمدرسين، وليس ذلك فحسب، بل مدرسون رسميون، بينما المهندسون المهنيون الذين يقع عليهم العبء الأكبر في عملية التدريس و في الأعمال التطبيقية لأقدميتهم وخبرتهم، والذين قلنا إن المعهد بدأ بهم، لا زال أغلبهم وإلى اليوم عقدويون!
في اللقاء التلفزيوني الذي أجراه وزير التعليم العالي والبحث العلمي في برنامج " الحكومة في ميزان الشعب " قيل أسابيع، سمعناه يتحدث عن إجراء من ضمن إجراءات أخرى سيتم اتخاذها حيال هذا المعهد، هو مراجعة وضعية طاقمه التدريسي من حيث الأهلية والتخصص ليكون مستجيبا لمتطلبات مخرجاته، وهو ما نعلق عليه آمالا كبيرة، لست مدرسا في هذا المعهد ولا أسعى حتى في ذلك اليوم ولا غدا.. لكنني مهموم بانحراف هذا الصرح العلمي الفريد عن مساره، ذلك الانحراف الذي فهمت من تصريحات السيد الوزير أن هناك إحساس ووعي به، ولا أعتقد أن السيد الوزير يخفى عليه أنه بمجرد إعلانه عن إجراءاته تلك، بدأت ماكينات التصدي لها، ونشطت شبكات " فرملتها " في أوساط المعهد وكلية العلوم والتقنيات، وأنها الآن جاهزة لدى تلك الأوساط، وعليه ألا يتفاجأ بحجمها وقوتها ووسائلها التي ركعت بها كثيرين قبله..!
فإما أن يصمد السيد الوزير ويمضي قدما في إجراءات إعادة المعهد إلى سكته، وخاصة في ما يتعلق بمن يصلح لإدارته، هل هو شخصية فنية على قدر من الإلمام بمجالات التدريس بالمعهد، وعلى قدرمن الاستقلالية بما تقتضيه طبيعة المعهد وأهدافه، أم هو شخص عادي كيفما اتفق مكبل ومُسير من طرف آخرين؟! وكذلك من يحق له التدريس بالمعهد، هل هو مهندس زراعي حاصل على باكالوريا علمية وخمس سنوات بعدها في العلوم الزراعية بالنسبة لقسم الزراعة وحماية النباتات بالمعهد، ونفس الشيء بالنسبة للأقسام الأخرى التي يضمها، وله خبرة ميدانية لعدة سنوات، أم أنه خريج حديث التخرج من المعهد العلمي العالي أو كلية العلوم والتقنيات لم يتلقى تعليما زراعيا، ولم يضع قدمه يوما في مزرعة ولا حظيرة حيوانية وليس لديه ما يعطيه؟!
إن الخيار الثاني أمام السيد الوزير، فيما إذا أصطدم بمقاومة وردات فعل من ليس من السهل عليهم التخلي عن مكاسبهم، ويمتلكون لذلك الخبرة الطويلة والعلاقات المتشابكة، هو ما نقترحه عليه من أخذ المعهد وضمه لكلية العلوم والتقنيات هنا بالمركب الجامعي بنواكشوط ليكون قسما من أقسامها، ولتربح الدولة نفقاته وميزانيات تسييره.. لأنه بهذه الوضعية، غير الطبيعية، ليس معهدا تقنيا ولا مهنيا وإنما قسما من أقسام كلية العلوم والتقنيات! وبلد كبلدنا يعد لاستصلاح عشرات آلاف الهكتارات، والعديد من مصانع الألبان وممشتقاتها بحاجة لتكوين فنيين قادرين على، وجديرين، بمواكبة تلك النشاطاتوالاستثمارات، وهؤلاء بدورهم بحاجة إلى معهد وبيئة تكوين غير بيئة التكوين في معهد روصو بوضعيته الحالية. وربما يدرك السيد الوزير أن حاجة هذا المعهد للغربلة والتمحيص، هي نفسها حاجة بقية مسؤسات التكوين الأخري التي تخفي كل منها خلف جدرانها اختلالات وانحرافات ، لن تكون إداراتها وأطقمها هي من ستكشف عنها..
محمدو ولد البخاري عابدين