كثر اللغط مؤخرا حول فتوى قديمة مرت دون أن يلتفت إليها أحد، لكن تم تحيينها لهدف غير واضح. لا قيمة للفتوى في حد ذاتها لأنها لم تصدر عن المجلس الأعلى للفتوى والمظالم، الجهة المخولة رسميا بالإفتاء في الجمهورية، وبالتالي فهي لا تلزم إلا من التزم بها. تستمد تلك الفتوى قيمتها من موضوعها؛ نشاط شركات الاتصال وهي شركات تتعامل مع مئات الآلاف من المواطنين وتبلغ الأموال التي تتداولها المليارات من الأوقية، وأي تحريم لأحد أنشطتها سيلحق بها ضررا تتأثر به المنظومة الاقتصادية الوطنية. لم يغضب الإخوان، ينتمي إليهم صاحب الفتوى، من كل ما قيل فيها، مثلما غضبوا من تدوينة حاولت فهم دوافع صاحبهم. غضبوا من قول التدوينة: "ربما كانت هذه فتوى مجانية تتولد عنها أخرى مدفوعة الثمن..."، فعدوه أكلا للحوم العلماء المسمومة. لكنهم نسوا أن صاحبهم خبير في الشؤون الدينية يؤجر خبرته للفضائيات ويبيع الرقيا "الشرعية" للعامة، وسبق له أن قدم استشارة مجانية نتجت عنها أخرى مدفوعة الثمن...
يتذكر الموريتانيون وساطته في قضية تجار التحويلات الذين استولوا دون وجه حق على مليارات من أموال الشعب الموريتاني، ولما طولبوا بإعادتها رفضوا. يقول صاحب الفتوى عن وساطته:"إن وساطته جاءت بمبادرة شخصية منه لحل أزمة رجال الأعمال المعتقلين..." مساعيه المجانية تهدف لحل أزمة رجال الأعمال، ولا تستهدف استرجاع أموال الشعب المنهوبة! فقد "...كشف للجزيرة نت، أن رجال الأعمال وافقوا لأول مرة على دفع نسبة من الفوائد..." أثمرت جهود الوساطة المجانية بين رجال الأعمال والحكومة، فجاء دور قطف الثمار على الجبهتين، فأصبح صاحبهم مستشارا شرعيا لأحد البنوك التي قبلت بفضل وساطته المجانية دفع نسبة من الفوائد...، وحصل من الحكومة على ترخيص لجامعة خاصة أطلق عليها اسم جامعة عبد الله بن ياسين. كل هذا عمل وطني مثمر لا يعاقب عليه القانون وصاحبهم أدرى بموقف الشريعة منه... تحتاج البنوك إذن إلى مستشارين شرعيين يبينون لها الحلال والحرام، فلمَ لا تحتاج شركات الاتصال، وهي تدير المليارات مثل البنوك، إلى مستشارين شرعيين! لا بد من تنبيهها إلى هذه الثغرة الشرعية وخير وسيلة تضمن استجابتها السريعة تحريم أحد أنشطتها لكي تسأل أهل الذكر بطريقة مثمرة للطرفين. في هذا السياق تفهم الفتوى باعتبارها استشارة مجانية تتولد عنها مدفوعة الثمن. وأي عيب في ذلك!
لو عمد أحد إلى هذا التعليل لفتوى صادرة عن الشيخ بداه، أو الشيخ محمد سالم ولد عدود رحمهما الله، أو محمد ولد سيدي يحي متعنا الله به، لكان في ذلك افتيات على المشايخ عظيم فقد اشتهروا بالزهد والفقر، فلم يبع أي منهم، أو يؤجر للخروج من الخلاف، خبرته العلمية لفضائية أو لمصرف فيه فوائد كثيرة...
جملة أخرى في التدوينة أغضبت الإخوان.."التقوى هاهنا" منزوعة من سياقها لتربط بحب المال، وقد ورد "جربوهم بالدراهم ولا تجربوهم بالصوم والصلاة". ولو أنصف الإخوان لعلموا أن صاحبهم يجمع المال. فما الغرض من جامعة عبد الله بن ياسين سوى جمع المال! تتراوح رسومها بين ثلاثمائة، وأربعمائة وخمسين ألف أوقية في السنة عن كل طالب، ولا يوجد على موقعها ما يدل على أنها تقدم منحا لأبناء الفقراء. هي صنو الجامعة اللبنانية الدولية، غير أن صاحب هذه الأخيرة لا يدعو المؤمنين إلى الزهد في الدنيا والحرص على خمسمائة أوقية.
على الإخوان أن يدركوا أن صاحبهم رجل سياسة لا يمكن أن تحمل أقواله وأفعاله على ما تحمل عليه أقوال وأفعال ولد سيدي يحي مثلا، إذ بضدها تتميز الأشياء. فحين يفتي ولد سيدي يحى، وما هو بالسريع إلى الفتيا، ولا بالظهرة، يجزم الناس أنه أراد الحق وإن لم يصبه، أما المشتغلون بالسياسة فإن نطقوا فبها، وإن سكتوا فعنها، وإن سعوا فلها، وإن أقاموا فعليها، خامرت منهم اللحم والدم.
انظروا، يرحمكم الله قول صاحبهم عن الشيعة، أيام الوصال بينهم وبين الإخوان، في برنامج على الجزيرة مباشر، ردا على سؤال: "ما موقفكم من المد الشيعي في موريتانيا؟"، فقال:" إخواننا الشيعة... المسلمون ينبغي أن يكونوا يدا واحدة وأن يكف بعضهم يده عن بعض..." ثم اسمعوه يقول في خطبة الجمعة التي عنونها "مخاطر التشيع"، بتاريخ 03-04- 2015 " لا بد أن ندرك أن الذين يزعمون التشيع لآل البيت قد اتخذوا نحلا في العقيدة مخالفة لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان دينهم دينا آخر غير الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم." كيف كان الشيعة إخواننا، ثم أصبحوا على دين آخر، ولم يتغير شيء في الدين وإنما تغير الكثير في السياسة!
ولا يستح الإخوان من مناصرة صاحبهم بعد فضيحة حلم الجزائر الذي رأى فيه، كما يرى النائم، أن الحرب الأهلية في اليمن جهاد، وأن العالم الموريتاني قدم أهله إلى الشمال ثم لحق بهم فرارا من الزحف، مثل ولد متالي الذي كان، حسب صاحبهم، قليل الأدب في الصغر...ألم تعد لحوم العلماء مسمومة!
لم يغفل الدين أمر الساعة؛ فأخبرنا القرآن أن علمها عند الله، وخيرنا النبي صلى الله عليه وسلم في أمرها.."ساعة، وساعة"، وعلمنا أمير المؤمنين حسن التصرف فيها.." الدنيا ساعة، اجعلها طاعة. نفسك الطماعة علمها القناعة..." أما ساعة "فوني" فعلمها عند من يرى الفتنة جهادا في سوريا واليمن، و"لعب عيال" في الصومال، وينفق الساعات مفتتحا مهرجانا للإنشاد في الملعب الأولمبي...
صدق مالك بن أنس حين قال:" ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يضعه الله في القلوب."
سيدي محمد ولد ابه