أشهر صورة سياحية روّجها السوريون وتغنّوا بها طويلاً كانت تلك التي تضمّ في إطار واحد جامعاً وكنيسة. كان السياح الأجانب يفغرون أفواههم عجباً لهذا التآلف، لهذا النموذج الفريد للتعايش في منطقة تربّت على نبذ الآخر، حسب ما وصل إليهم. إنها أيضاً أشهر كذبة انطلت علينا، أو صدّقناها، ربما أردنا أن نصدّقها لأنها كانت المنجم الثرّ الذي يدرّ ذهباً سياحياً سنوياً، ولن يشكك بمصداقيتها إلا «عدو الشعب»، إذا استعرنا عنوان مسرحية هنريك ابسن الشهيرة.
اليوم يستعمل المسلسل السوري «بواب الريح» (للمخرج الفلسطيني السوري المثنى صبح، والكاتب خلدون قتلان) الكذبة ذاتها ليضم إلى الصورة رموزاً دينية يهودية، وليحتفي بشكل بارز بتقديم شخصيات يهودية سورية، الأمر الذي جرى تجاهله تماماً في الأعمال الدرامية التلفزيونية السورية كلها على مدى عقود.
تكتظ الحلقات الأولى من المسلسل بصور التعايش الجميل بين الجماعات الدينية في العام 1860، ففي السوق تجد أن شيخ النحّاسين (يؤديه دريد لحام) يهودي، وهو من الشخصيات المؤثرة جداً في المجتمع، كما يجري الحديث عن مغنية يهودية، وكذلك فإن أحد أبرز تجار الحيّ مسيحي (الفنان سليم صبري)، وهو الذي اتخذ من تجارة الشرقيات مهنة له. كذلك، قلما يسمع المرء في هذه الدراما أسماء موحية تشير إلى الأقليات القومية مثل الأكراد (شمدين آغا).
هذه الرموز والإشارات لا تمر بشكل عابر، إنها تقريباً لعبة المسلسل، سيحضر الشمعدان اليهودي بين مشهد وآخر، كما ستحضر سيرة اليهود وأحيائهم وقصورهم، وصولاً إلى رغبة المسلمين، النساء المحجبات خصوصاً، بالذهاب إلى حارة اليهود لحضور طقوس الاحتفال بـ «عيد استر»، وهو ما نشهده بالفعل في إحدى الحلقات.
هو مسلسل سياحي تماماً، ونموذج آخر من «باب الحارة»، حيث سنرى مجتمعاً أخّاذاً بتآلفه وجماله في تلك الأزمان القاسية. تحضر مفردات البيئة الشرقية، أغنيات وحرف يدوية من صناعة الأعواد الموسيقية إلى صناعة النحاسيات. في كل مشهد للسوق سترى محل الأعواد ذاك وكأن لا شغل للسوريين آنذاك غير الطرب والموسيقى. هذا بالإضافة إلى بيوت السوريين الحافلة على الدوام بأطايب الفاكهة والطرب وصوت الماء، بل وبراميل النبيذ التي لم نكن نراها إلا في الأفلام الأجنبية!
مجتمع خالي البال، لا هم له سوى الشعر، الزوجة تخاطب زوجها شعراً، والابنة تخاطب أباها شعراً، والجدات لا عمل لهن سوى تفكيك الألغاز والأساطير في الأماسي: لماذا تأكل القطة أولادها. ما وجه الشبه بين «لقمة الغني» و»صرماية الفقير».. وسواها من أحاجٍ تلقى بشكل مجاني لجذب المشاهدين.
لكن ذلك كله ليس من أجل السياحة هذه المرة، بل هو من باب السياسة، حيث يلتقط المسلسل (أو هكذا يريدنا أن نفهم) لحظة مشابهة لمجريات الأحداث التي تكتنف البلاد. كانت أمور البلاد تسير على أحسن ما يرام في العام 1860، قبل أن تأتيها الفتنة الطائفية من لبنان لتُرتكب المجازر بحق آلاف المسيحيين. لقد كانت سوريا تعيش هذا التآلف قبيل اندلاع الثورة السورية في آذار العام 2011، إلى أن جاءت الفتنة الكبرى، أو المؤامرة الكونية لتهدم تلك الجنة التي فقدها السوريون!
لا يخبئ المسلسل نفسه، إنه مشغول بقرار وتوجيه سياسيّ، الراهن السياسي واضح فيه، إلى حدّ يكاد سوريو العام 1860 يهتفون بحياة بشار الأسد. في مشهد للكراكوزاتي، يسأل صاحب خيال الظل أمام جمهور المقهى: «أيهما أحلى، الشام، أم الآستانة؟»، الجواب بالطبع سيكون «الشام أحلى، لأن الشام أمّ، والأم بتلم (تلمّ أو تجمع)». هنا يروح جمهور المقهى يهتف «الله محييك يا شام».
يريد العمل أن يذكّر السوريين، الثائرين خصوصاً، بهناءة عيشهم قبل هذه «الفتنة» المعاصرة، وربما ستأتي الأحداث اللاحقة في المسلسل لتؤكد أن عليهم العودة إلى تلك الحظيرة، إلى إطار صورة ستجمع هذه المرة جامعاً وكنيسة ومعبداً يهودياً.
كل ما مرّ في العمل مفهوم حتى الساعة، غير أنه لا بدّ من الانتظار لمعرفة أي رسالة يريد صنّاع المسلسل إيصالها من هذه الوفرة اليهودية في العمل، وماذا يعني هذا الدور الذي يلعبه دريد لحام كشيخ كار النحاسين، الأمر الذي يذكّر بدوره في مسلسل «سنعود بعد قليل»، حيث لعب دور صاحب محل شرقيات موالٍ للنظام، كان مهموماً بأن يحفظ أرشيف البلاد وفنونها وذكرياتها. وهنا، أيّ دور سيكون لشيخ النحاسين في إطفاء الفتنة، وحفظ البلاد من المؤامرة الكونية، ولا سيما أنه القائل، كما ظهر في الإعلان الترويجي للمسلسل «يا شام، يا نول عم يغزل قصة عشق/ يا صدى تسبيح الحمام/ يا مختصر تاريخ/ يا شامة الدنيا/ بإيدك سكري بواب الريح».
أم عبدو الحلبية
من يستطيع أن ينسى الولد الحلبي نايف، الذي ظهر مرة في مقابلة تلفزيونية من موقع بيته الذي قصف بصاروخ دمّر حياً بأكمله؟ ظهر بعد القصف برأس مربوطة بعصبة، محاولاً أن يتمالك نفسه ويمنعها من البكاء. قال الولد كلاماً حيّر الجميع، بحكمته ووصفه للمشهد، أثناء وبعد القصف. أسئلته كانت صادمة، اختصرها بعبارة، وبلهجة حلبية محببة، ترددت بعدها كثيراً على لسان السوريين «بس أفهم، ليش عم يضربنا؟ حكم القوي عالضعيف؟»!
اليوم تظهر رشا، طفلة حلبية تؤدي دوراً في مسلسل يبث عبر الـ»يوتيوب» يحمل اسم «أم عبدو الحلبية» (تأليف عفراء هاشم، إخراج بشار هادي)، الممثلون فيه من الأطفال، تؤدي فيه رشا نفسها دور أم عبدو الحلبية، وهذه في ما يبدو شخصية شعبية حلبية نجد لها العديد من المقاطع التمثيلية الإذاعية على موقع «يوتيوب». العمل حلقات قصيرة منفصلة يجسد مأساة السوريين في النزوح والتشرد والقصف اليومي. المؤثر فيه أنه يجري على لسان أطفال من المفترض أن يخوضوا في ظروف طبيعية تجارب أكثر صفاء ورومانسية، غير أنهم هنا يتحدثون بلسان الكبار ومآسي الكبار.
العمل يقع على حدود الكوميديا، خصوصاً حين نشاهد هذه الطفلة بسنواتها الغضة تقلّد بحرفية وموهبة لافتة «أم عبدو» بحركاتها لهجة وإيماءات وهموماً. لكن لا يلبث المرء أن يلتفت إلى خلفية المشهد وعناصره المأساوية، فيرثي لحال هؤلاء الأطفال وقد أجبروا على النضوج قبل الأوان، وحملوا هذه اللغة المأساوية التي تهّز الضمائر فعلاً. نايف ورشا، وأطفال كثر آخرون ظهروا عبر مسار الثورة السورية، دليل أكيد على أن الثورة السورية باتت بيد المستقبل، مهما حلّ بها من نكسات.
٭ كاتب فلسطيني
راشد عيسى