كيف سيكون النقاش الثقافي إذا كانت الندوات تنظم لغايات ومقاصد خاصة، ويطبعها الارتجال والتسرع؛ والمداخلات تهيأ للترقية وتضخيم الملف «العلمي»، والجمهور الثقافي حاضر كالغائب؟
إذا كان زمان المداخلات لا يتعدى، في أقصى الحالات أربعين دقيقة، وكل جلسة تضم أكثر من أربعة متدخلين، وستتلوها جلسة أخرى، لا يمكن لزمان النقاش إلا أن يتقلص، وفي أحسن الحالات لا يمكنه أن يتعدى نصف ساعة. كيف يمكن أن يكون النقاش في مثل هذه الظروف، ولاسيما عندما تكون «الشهية» للنقاش مفتوحة لمقاصد وغايات لا تختلف عن طبيعة التنظيم ونوع المتدخل؟
يكون رئيس الجلسة في موقف حرج، ولاسيما عندما لا يكون يعرف أهواء المناقشين ولا أمزجتهم. ويكون من الصعب عليه ضبط الجلسة أو توجيه النقاش. فهو يريد «أسئلة» ليوزعها على المنصة. والمناقشون يريدون تقديم «مداخلات». ويكون الالتباس الذي نلفاه عادة في إلقاء العروض، حيث يكون المناقش عاجزا عن طرح ملاحظاته بدقة وبإيجاز، فيحصل الارتباك ويقع التجاذب بين المنصة والجمهور.
عندما تكون المناقشات على أساس ما قدم من مداخلات، وأغلبها لم يصل إلى الجمهور كما أراده صاحبه، للخلل البنيوي الذي يعتور تقديم المداخلات بما فيها من قفز ونط، وشطح وطي.. ويتعلل المتدخل بكون الجمهور سيطلع على الورقة كاملة عندما تطبع؟ أو حين يطلع عليها إذا كانت قد وزعت على الحضور، سيكون النقاش ناقصا ومبتسرا، نقصان وابتسار الأوراق المقدمة. هذا بطبيعة الحال إذا كنا نتحدث عن «نقاش» حقيقي، ورغبة أكيدة في تحقيق الغايات الموضوعية من الندوات الثقافية.
لكننا في واقع الحال أبعد ما نكون عن تحقيق هذا المطلب. فالذي يبقى من الجمهور الثقافي، ويكون راغبا في النقاش، يفعل ذلك لمقاصد لا علاقة لها بالجدية المفترضة في تنظيم اللقاءات والمنتديات. إنه أحد اثنين، كما لامست ذلك من خلال تجربة امتدت لعقود، وفي فضاءات وطنية وعربية متعددة: إما أنه يريد «تصفية» حساب مع «أحدهم». أو أنه يريد «الانتصار» لـ»آخر» تربطه به علاقات ما.
ثنائية «التصفية» و»الانتصار» هي التي تطبع كل نقاشاتنا الثقافية والسياسية أيضا. إننا كما نتناقش في السياسة نفعل في الثقافة. وكل من النقاش السياسي والثقافي، ولَّد هذه الحساسية «المثقفية» التي تجعلنا لا نريد رؤية الأشياء إلا كما نتصورها. إننا نعتقد جازمين أن الصواب إلى جانبنا أبدا، وهو يجانب الآخر دائما. لذلك يجب الانبراء للآخر لدحضه أو تعضيده. هذه هي الثنائية التي تحكم كل نقاشاتنا، وأيا كان المجال أو طبيعة المنتدى.
يكفي للتدليل على هذه الذهنية ضرب المثال من «الاتجاه المعاكس» : فالصوتان المتضادان أو المتعارضان لا يستمع أي منهما إلى الآخر، ولا يحب سماع ما يقول، بل إنه لا يترك له حتى المجال للحديث. إن الصوتين يتكلمان في وقت واحد، وبصوت مرتفع, وعند كل من المتكلمين نزوة واحدة، لكنه مزودجة: هي «تصفية» رأي الآخر، بالحق أو بالباطل، بالكذب أو بالحقيقة، من جهة. و»الانتصار» لوجهة نظره بقلب الحقائق أو اعتماد الوثائق؟ سيان.
لا يمارس النقاش الثقافي، في الندوات الثقافية، بالحدة نفسها، والتي نجدها في حلقات مثل ذلك البرنامج، ولكنه يستمد منها الذهنية التي نتحدث عنها. فالكثير من المناقشين يمسك بفكرة غير واضحة، ويشوهها لينتقدها. وآخر، يجيء متأبطا مداخلته التي هيأها في منزله، ليناقش عرضا لم يستمع إليه، ويأبى إلا أن يخوض في نقاشات لا علاقة لها بالموضوع المطروق. ومنهم يسأل صاحب المداخلة عن أشياء تتصل بكتاب له، أو عن تصريح له في حوار، أو شابه ذلك من النقاشات التي تجعل بعض المتدخلين يناقشون من أجل النقاش؟ ولا داعي هنا للوقوف على الذين يتدخلون من أجل إضفاء جو من الفكاهة أو السخرية على المناخ «الجاد» و»الصارم» الذي يمكن أن يسود، سدى، في مثل هذه الأجواء؟ لذلك تكون الردود عادة في المستوى المتدني للنقاشات، وأحيانا نجد بعض أصحاب المداخلات يرد بعنف أكبر، أو يتنازل عن حقه في الرد احتراما للوقت.
ويظل السؤال مطروحا حول فاعلية مثل هذه اللقاءات والمنتديات ومردوديتها على المستوى الثقافي والاجتماعي والسياسي؟ لقد صارت الندوات، في مختلف الفروع المعرفية والثقافية والفنية والسياسية، سواء كانت في فضاءات مفتوحة مثل مدرجات الجامعات، أو في قاعات التصوير للقنوات الفضائية، صورة مستنسخة عن بعضها البعض. وقوامها إعادة إنتاج الرداءة نفسها، وبالذهنية عينها. ألا يحق لنا التفكير في وسائل أخرى والعمل على الانطلاق من غايات مختلفة في تنظيم مثل هذه الندوات والملتقيات؟
أتيح لي في مناسبات عديدة بعد أن وجدنا أنفسنا أمام جمهور محدود جدا، أقترح على المنظمين الانتقال من قاعة المؤتمر إلى مائدة مستديرة تضم المتدخلين، ومفتوحة في وجه من يريد. ونعيد تدبير الجلسات والنقاشات التي تجعلنا نتناقش بوعي وبمسؤولية ونضج، وبغض النظر عن إكراهات الزمن. فكان الرفض.
من الندوات الناجحة التي حضرتها، أول ندوة حول الرواية العربية بفاس سنة 1979. نظمها اتحاد كتاب المغرب برئاسة محمد برادة. كانت مغلقة، ضمت روائيين ونقادا. كان النقاش عميقا ومسؤولا وناضجا ومفتوحا. وظلت أعمال الندوة بعد طبعها مرجعا تاريخيا حول الرواية العربية الجديدة. إن الندوة التي لا تدفع إلى التفكير وإلى تغيير الأفكار، تظل قاصرة على لقاء المنتدين والتعارف بينهم، وعلى صرف الميزانيات، وتأهيل الملفات للارتقاء. هذا مهم، ولكننا نطمح إلى الأكثر أهمية، وليس هذا مستبعدا، ولا مستحيل التحقيق.