“حين تُستخدم القوة فمعنى ذلك أن السلطة بالمعنى الحصري قد فشلتْ” حنه أردنت
د. محمد بدي ابنو *
ـ1ـ
خصص هابرماس وجاك دريدا –رغم خصوماتها العتيقة- الشهرين الذين أعقبا انهيار مركز التجارة العالمي “للتواصل في قلب الحدث”. بقيا في نيويورك وقاما رفقة الفيلسوفة الأمريكية جيوفانا بورادوري بتأليف كتاب حملتْ صيغتُه الإنجليزية عنوان: “الفلسفة في زمن الرعب” والصيغة الفرنسية عنوان: “مفهوم 11 سبتمر”. في هذا هذا الكتاب يعلن هابرماس تخوفه من أن تصوره “للنشاط الموجه للتفاهم” كركن من أركان “نظرية الفعل التواصلي” قد انهار مع انهيار البرجين التوأمين. لا يصدر الأمر هنا عن تقييم أخلاقي لما يعنيه إنسانيا الحاي عشر من سبتمبر ولا بمقارنته في هذا الإطار بالثمن الانساني الباهظ للصراعات الجيوستراتيجية الذي تدفعه البشرية في أماكن كثيرة من العالم. وإنما يتعلق بتقييم امكانية تواصل “الأنا” الغربية و”الآخر” الإسلامي.
ـ2ـ
لجاك دريدا اهتمام خاص بالعالم الاسلامي وبشمال أفريقيا بشكل أخص. فهو فيلسوف فرنسي الجنسية جزائري الأصل والمنشأ. ولكنّه ظل يؤكّـد بنوع من التحسّر أن نشأته الجزائرية خلال الفترة الاستعمارية بين من يُسمون “الأقدام السود” قد منعتْه حينها من تجاوز الحجاب الثقافي الاستعماري، كانت انفصالا أكثر مما كانت تواصلا.
ولا يدعي هابرماس أنه على اضطلاع كبير بالعالم الإسلامي. ولربما تكون الدولة الإسلامية الوحيدة التي عرفها نسبياً عن قرب هي إيران التي يرجع اهتمامه بها إلى الأيام الأولى للثورة الإسلامية. وهو ما جعله يكتب سنة 2003 نصا عن الإسلام والديمقراطية دون أن يتطرق فيه لغير التجربة الإيرانية. ففيه يروي رحلة قام بها إلى إيران ويستعرض الآراء المختلفة التي دوّن خلال محاوراته مع مثقفين وسياسيين إيرانيين حول ما عُرف في تلك الفترة بتجربة الإصلاحيين الإيرانيين (محمد خاتمي وزملائه). وفي نصه هذا يسجل أنه استمع إلى آراء متباينة ولكنه يأسف أن خيار “دمج الشرق والغرب” – أي خيار “التواصل” – لم يكن من بينها.
ـ3ـ
ولكن هابرماس ظل يصر على أن غياب التواصل أو ارتباكه مع الآخر والآخر الإسلامي بشكل خاص يصدر في جانبه الأهم عن تصادم المصالح الاقتصادية. ومن ثم فمفردات هنتنغتون ليست من وجهة نظره إلا غطاء إيديولوجيا.” فما يتخفى خلف موضوع (صدام الحضارات) هي المصالح المادية الجلية للغرب كمصلحة الاستمرار في التصرف بالموارد النفطية وضمان تموينه بالطاقة.”
وانطلاقاً من هذا المستوى يتفق دريدا وهابرماس على أن خصوصية العالم الإسلامي في السياق الدولي الحالي تكمن في نقطتين: أولاهما أن أغلب الثقافات الإسلامية تزدهر على أراض غنية بالمواد الأولية كالبترول وهي آخر “الثروات غير القابلة للنقل الفرضي أو للاترابية.” وهو ما يجعل وضعية العالم الإسلامي هشة أمام التحديث الوحشي الذي “تحمله بضعة دول وشركات متعددة الجنسية.”
ـ 4 ـ
أما الخصوصية الأخرى فهي أن هذا العالم لم يعرف الديمقراطية التي يريانها زبدة التجربة الحديثة. وهي ملاحظة لا تخلو من طرافة إذا ما تذكرنا أنها تصدر من جهة عن الفيلسوف الوحيد الذي ما يزال حياً من بين فلاسفة مدرسة فرانكفورت، بجذورها الماركسية وبما عُرفتْ به من نقد لاذع للحداثة ولما تسميه الديمقراطية البرجوازية. كما تصدر عن فيلسوف منافس للأول جـنّد نقده ـ أو ما أَطلقَ عليه عبارتَه الرائجة : التفكيكية ـ لكشف و”هجاء” الجوهر القمعي، بتعبيره، للأنوار وللحداثة. فالأخيرة ظلّتْ من وجهة نظره – كما من وجهة نظر مدرسة فرانكفورت – تحمل في صلبها الخراب النازي والفاشي الذي آلت إليه في العقدين الأخيرين من النصف الأول من القرن الماضي.
هذا “الهجاء” عاد جاك دريدا ليلحّ عليه في كتابه “Voyous” أو “الشريرون” الذي صدر وهو على فراش الموت (2004). ففيه يرى أن مفهوم الدول الشريرة أو المارقة (rogue States) الذي تطلقه الولايات المتحدة على بعض الأنظمة التي لا تروق لها يختصر عدوانية الدولة الحديثة. وتحليل مفهوم السيادة الذي تنبني عليه هذه الدول الحديثة يكشف حسب دريدا عمق الشر والعدوان الذي تتأسس عليه. بل إن جاك دريدايقرر في كتابه “الفلسفة في زمن الرعب” أو “مفهوم 11 سبتمبر” أن الإرهاب كظاهرة دولية لا يمثل في التحليل النهائي سوى نتيجة ذاتية للحداثة لا مفر لها منه.
ـ5ـ
هذا الطرح، رغم ما قد يبدو فيه نسبيا من المبالغة والاختزال، يلفتُ انتباهنا إلى عدد من الأسئلة التي ما تزال معلقة حول ظواهر متلاحقة آخرها ما يعرف إعلاميا بتـنظيمات داعش وبوكوحرام… لنلاحظ مثلا أن أساليب العنف التي تستخدمها هذه التنظيمات موروثة مباشرة، في أغلب إحداثياتها ومحدداتها، عن الأجهزة الأمنية لدول المنطقة وعن الأتظمة “اليسارية” بشكل خاص. انتقلتْ هذه الماكينات العنفية من مستوى الملْكية التي تحتكرها الدولة عبر أجهزتها الأمنية إلى مستوى الملْـك “المشاع″ الذي تُوظفه التنظيمات المتنافسة. كان العنف الأمني الوحشي أيضا في بعض جوانبه أداة “دعائية”، ترهيبا وترغيبا، نصف علنية. أصبح الآن أداة دعائية تتباهى بها التنظيمات المعنية عبر أحدث التقنيات الاعلامية. وحين نعيد بالقابل النظر في خريطة النخب “الحداثية” في العالم العربي وتموقعاتها السلطوية يبدو لنا سؤال المسؤولية الجماعية عن ظاهرة العنف الذي يجمع الوحشية الأكثر بدائية والأساليب الأكثر تطورا سؤالا أكثر إلحاحا وأكثر إحراجا.