ساهم العمال والمستخدمون من أجرهم لتسديد نفقات الانخراط في صناديق التقاعد الاجتماعية، لكي يضمنوا راتبهم آخر كل شهر بعد خروجهم من وظائفهم في القطاعات الخاصة والعامة... لكن هل تكفي رواتب التقاعد لتأمين من وصلوا إلى سن الشيخوخة في الدول العربية؟
الجواب كان "كلا"، حسب نتائج الاستطلاع الأسبوعي للعدد السابق من ملحق "الاقتصاد الجديد"، والذي أظهر أن 98% من المشاركين فيه، غير راضين عن الرواتب التي "يغنمها" المتقاعدون بعد سنوات طويلة من العمل... ما دفعنا إلى الدخول في التفاصيل لمعرفة أصل هذه الأزمة وتداعياتها.
فقد أشار تقرير صادر عن منظمة العمل الدولية خلال العام الماضي، إلى أن 48% من الناس فوق سن التقاعد في العالم لا يحصلون على معاش تقاعدي. في حين أشار تقرير منظمة العمل العربية الأخير، أن واقع أنظمة التقاعد في العالم العربي يمكن وصفه بـ "القاتم"، حيث إن 38% فقط من حجم القوى العاملة تحصل على تغطية صحية في سن التقاعد.
وحسب بيانات آخر جدول صادر عن المصدر ذاته، تبلغ نسبة المشمولين بأنظمة التقاعد في تونس 47% من إجمالي القوى العاملة، وتصل في مصر إلى 57%، وبالنسبة للمغرب فهي بنسبة 22%، أما الجزائر فتقارب نسبة المشمولين في أنظمة التقاعد 30%، وفي لبنان أكثر بقليل عن الـ40%... بمعنى آخر، يمكن القول إن أكثر من نصف القوى العاملة العربية ستعيش "من قلة الموت"، في مرحلة الشيخوخة.
وربطت منظمة العمل العربية وضعية الرواتب في الدول العربية، بـ "ارتفاع معدلات الإعالة مقابل انخفاض نصيب الفرد من الدخل، وتزايد أعباء تدابير الحماية الاجتماعية".
وتعليقاً على أوضاع المتقاعدين العرب، قال عضو لجنة الحريات النقابية في منظمة العمل العربية علي صبيح، إن شروط تحقيق رواتب محترمة للمتقاعدين العرب، مرتبطة بدفاع المنظمات النقابية العربية عن مصالح العمال والمستخدمين.
وأضاف علي صبيح في تصريحه لـ "العربي الجديد"، أن الأرقام حول وضعية المتقاعدين العرب "صادمة"، بل الغالبية العظمى من هذه الفئة لا تحصل على الحد الأدنى لمواجهة مصاريف الحياة اليومية. وقال المتحدث ذاته، إن الواقع يفرض على المتقاعدين البحث عن فرص شغل بعد وصولهم إلى سن التقاعد، ولا يعولون على معاشاتهم، نظراً لغياب التأمين الصحي والاجتماعي لهم ولعائلاتهم.
وأوضح عضو لجنة الحريات النقابية، أن الخلل يكمن أساساً في غياب المساواة بين القطاع العام والخاص، حيث إن عمال ومستخدمي الأخير، يشكلون قاعدة القوى العاملة العربية، ومعاشاتهم هزيلة جداً. أضف إلى ذلك، غياب الاستثمارات المجدية وذات المردودية العالية لرؤوس أموال مدخرات التقاعد، ما يفرض على الصناديق الاستمرار في تسديد أجور المتقاعدين من المساهمات الشهرية فقط للعمال الناشطين إنتاجياً.
وعن دور اللجان داخل منظمة العمل العربية، وخاصة لجنة الحريات النقابية التي تعنى بالتنسيق للدفاع عن حقوق العمال الاجتماعية، كشف علي صبيح، أن ما ينتج عنها "مجرد كلام فقط". وشدد على غياب أي عمل حقيقي على أرض الواقع، وقدم مثالا عن اللجنة التي يشتغل بها، حيث قال إن أعضاءها لم يجتمعوا منذ انتخابها، ولم يتوصلوا منذ شهر مارس/آذار الماضي إلى أي وثائق أو أرقام يمكن أن تكون قاعدة للعمل على الملفات النقابية والاجتماعية في الدول العربية.
ووضع تقرير صادر عن شركة "ناتكسز العالمية لإدارة الأصول" في "مؤشر التقاعد السنوي لعام 2015"، دولة جزر القمر في ذيل ترتيب الدول العربية، وقبلها موريتانيا التي احتلت الرتبة 140 عالمياً من أصل 150 دولة شملتها نفس الدراسة. وجاءت الأردن خامسة في الترتيب، تليها البحرين ثم الجزائر وتونس، فيما احتلت مصر المرتبة 95 عالمياً.
ورصد الأستاذ الجامعي والرئيس السابق للجمعية المغربية لمفتشي الشغل حسن طارق، الإشكاليات الراهنة التي تعاني منها أنظمة التقاعد العربية، وذكر منها، عدم تجاوز نسب التغطية في معظم الدول العربية 50% من إجمالي القوى العاملة.
وأشار في تصريحه لـ "العربي الجديد" إلى نقطة اعتبرها مهمة جداً، وهي غياب عقوبات قوية في القوانين العربية، تلزم أصحاب العمل باحترام القانون المنظم للتغطية الاجتماعية ومنها التقاعد، ما يشجع أرباب العمل على ارتكاب مخالفات في حق الأجراء، تصل حد الاقتطاع من الأجور دون التصريح لدى صناديق التقاعد، ليجد المتقاعد نفسه بعد نهاية الخدمة من دون راتب المعاش.
وأوضح المتحدث ذاته، أن أنظمة التقاعد العربية لا تضمن الرفاهية للمتقاعدين، بل توفر فقط الحد الأدنى أو دونه لتسديد بعض النفقات العائلية. وشدد حسن طارق على أن مدى العناية بالحماية الاجتماعية هو مقياس لمدى تقدم المجتمع ونهضته وتماسك مكوناته وترابطها. لكن عربياً، نظراً لغياب آليات دمج مبادئ المساواة الاجتماعية وحقوق الإنسان، تتعرض شريحة المواطنين الذين وصلوا إلى مرحلة الشيخوخة من التهميش الحقوقي والصحي.