بين النُّطق والكتابة… ما هي حظوظ الاقتراب؟

رسالة الخطأ

Deprecated function: preg_match(): Passing null to parameter #2 ($subject) of type string is deprecated in rename_admin_paths_url_outbound_alter() (line 82 of /home/amicinf1/public_html/sites/all/modules/rename_admin_paths/rename_admin_paths.module).
أربعاء, 2014-07-09 16:18

نحن إزاء الخطاب، أمام لسانين: القلمُ واللسان، واللسان أشبهُ بالحياة، في مزامَنته، وفي تداركه، وفي استمراريته؛ فلا يجفّ، إلا إذا جفَّ الرِّيق من فَرْط الإنهاك، أو الإرباك المُسكت. وهذا لا يغضُّ من شأن الصورة التي نالت في الإعلام مكانةً أثيرة.
والمخاطِب بالنطق على مسرح الحياة يشترك أحيانا مع الممثل المسرحي المتحلل باقتدار من سطوة النص المكتوب، متميزاً، بالتأثر الإيجابي بالجمهور أو السلبي، محاولا التَّماهي مع ما يتفاعل الجمهور معه؛ بفتح التدفق للّحظة المسرحية والموقف المشعّ، أو بالتلافي، أو التجاوز، للحظات والمواقف غير المضيئة، يحاول الناطق المتكلم أنْ يتلاعب، وأن يعدِّل وَفق مقتضيات الموقف الاجتماعي.
سرعةُ البديهة، معنى مناسبا ولغةً تُستدعى ألفاظُها إلى مواقعها، قبل الفَوات، استيعاب الموقف الاجتماعي بمكوّناته، أو بمكوّنه الأهم أو المهيمن، يقابل بؤرةَ النص ومركزه. 
لسنا، بالطبع، في معرض المفاضلة بين هاتين الأداتين للتعبير، ولكنهما تتقارضان، أحيانا، وفي الأكثر، أو في الجوهر التعبيري، تفترقان. 
قد يطمح الكاتب إلى لغة حيوية متدفقة كأنه يحدِّث قارئه، وقد يطمح اللسان إلى لغة منظَّمة مركَّزة صافية كأنه النص المكتوب والمُعدّ. 
في الحياة الثقافية أمثلةٌ على ناطقين بارعين، في الخطابة والمحاضرة، كلامُهم الحيُّ كأنه حروفٌ مقروءة، كما مشهور عن عدد من الخطباء قديما، كزياد ابن أبيه الذي قال فيه الشَّعْبيُّ :» ما سمعت متكلما على منبر قط تكلَّم فأحسن إلا أحببتُ أن يسكت؛ خوفا من أن يسيء إلا زيادا ابن أبيه فإنه كلما أكثر كان أجود كلاما». وكذا غيره كسحبان بن وائل، وكثيرون ممن سطعت نجومُهم في بيئة خطابية. ولا غرابة فالخطابة فنٌّ نثريٌّ لسانيّ، ولذلك استلزمت شرائطَ نطقية كجهارة الصوت وشدَّته، فضلا عن الفصاحة، والتبرُّؤ من اللحن، وفي المقابل عاب العرب- كما يقول الجاحظ- ضيقَ الصوت ودقته، كما عابوا على الخطيب عيوبا شخصية ونفسية كالبُهْر (وهو انقطاع النَّفَس من الإعياء) والارتعاش والرِّعدة أو ما يعتري الخطيب من الحَصر والعِيّ ( وهما امتناع الكلام). 
وفي المقابل ثمة، وهم قلائل، مَن قد يصل إلى مرحلة «الكتابة المنطوقة» حين لا يحتاج إلى تعديل على ما يكتب أوَّلَ مرة، كما يُخبر زكي نجيب محمود عن نفسه في معرض حديثه عن الكتابة، وكتابة «المقال الصحفي» في أمسية ثقافية على قناة النيل الثقافية قال: «وقد منَّ الله عليَّ بقدرة وفرت عليَّ جهدا كبيرا جدا، أني لم أكتب مسودة في حياتي لشيء كتبته. يعني أكتب بقلم الحبر على الورق، وواحد في الألف أن أشطب كلمة واحدة مما كتبت، والذي كتبته هو الذي يذهب إلى المطبعة».
ومن قبلُ كان ابن خلدون مع جودة نظمه في الكتابة، متمتعا بحُسن الحديث إذا حدّث، كان محدِّثا بارعا رائعَ المحاضرة، يخلب ألباب سامعيه بمنطقه وذلاقته. وهذا ما يحدثنا به جماعةٌ من أعلام التفكير والأدب المصريين الذين سمعوه أو درَسوا عليه؛ ومنهم المحدِّث ابن حجر العسقلاني الذي عاصره، والمؤرخ تقي الدين المقريزي الذي سمعه ودرَس عليه. 
في المقابل فإن توفر مَلَكة الكتابة، أو امتلاك مهاراتها، لا تمنح صاحبَها القدرةَ على الحديث البارع؛ ذلك أن ثمة عوامل ذهنية ونفسية خاصة يتطلبها الحديث الحيّ. 
هذا الحديث الحيُّ المتأثر بتتابع المشاعر، وتغيُّرها محكومٌ بالقدرة على التحكم في هذه المشاعر، وقد تغدو اللغة طبيعيةً كما يسميها الفيلسوف الفرنسي كوندياك «اللغة الطبيعية» أو لغة العواطف الخاصة بمنطقة الشعور مقابل لغة المنطق. ومن هنا تفضح اللغةُ المنطوقةُ صاحبَها أزْيَدَ مما تفعل المكتوبة. ذلك ليس من خلال فلتات اللسان التي تشي بشيء من المُخبَّأ فقط، بل بالملامح الصوتية كالتنغيم والنَّبْر، كما فصَّل صاحب كتاب «الأسلوبية» بيير جيرو بين نوعين من النبر: النبر العفوي وغير الشعوري، وهو الذي يكشف عن الأصول الاجتماعية أو الريفية وعن الميول النفسية البيلوجية في الوقت ذاته، والنبر الإرادي الذي يهدف إلى إحداث انطباع محدد لدى المحادَث، كما حين يعبر المتكلم عن احترامه، أو حين يحدث أثرا مضحكا (بتقليد لهجة من اللهجات) أو حين يحاول أن يتميز بلهجة ما.
ولكن هذا المتحدث المتيقظ لن يتمكن غالبا من انفلاتِ تعبيرٍ، أو ملمحٍ صوتي لصالح المتلقي المدقق (في هذا العصر الذي تُمكِّن تقنياته من استعادة المنطوق باللهجة والملامح المصاحبة وبالصورة) كما تفعل بعضُ البرامج الساخرة وغيرها، حين تتعمد التركيز والمقارنات بين أقوال الشخصية المقصودة في أزمان أو ظروف مختلفة…بما يذكرنا، على نحو ما بما سمّاه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو بـ»كلام الأحمق» الذي قد نصادفه نحن فيما نتلفظ به الذي يفلت منا من خلال ما ننطق به.
وعليه؛ فلا نستغرب أن نجد اقتدارا أدبيا كتابيّا، ولا نجد نظيره في الكلام المنطوق. ذكر الروائي صنع الله إبراهيم غيرَ مرة في لقاءات صحفية ما معناه أنَّ طاقته العصبية والجسدية ضعيفة لا تترك له مساحةً للنشاط السياسي (وهو الذي يتطلب حضورا شخصيا مؤثرا من أهم مقوماته امتلاك الخطاب المؤثر) فوق أنه لا يملك نوعا من اليقين المطلق الذي يؤهله للقيادة السياسية، وأنه لذلك يدَّخر كلَّ جهده لعملية الكتابة التي تتطلب التتبع والقراءة والاطلاع.

ما حظوظ الاقتراب؟

قد تقترب المسافة بين المنطوق والمكتوب إما بالارتقاء بالمنطوق إلى حدود المكتوب، وإما بتواضع المكتوب إلى طبيعة المنطوق، كما يقول جيرو: «استطاعت أخيرا بعضُ الشخصيات الأدبية القوية أن تتجاوز إلى حدٍّ ما حدودَ الأجناس والأسلوب، وكان ذلك بدءا من القرن السادس عشر على الأقل. 
فـ «مونتين» أراد لأسلوبه أن يكون «فرقة فوضوية» وأن يكون «مكتوبا على الورق كما يلفظه الفم. وتمرَّد على «الكلام الغني والرائع» الذي يغطي فراغ التفكير، بينما يذهب ديكارت إلى حد اعتبار أن «هؤلاء الذين يملكون حججا قوية، ويهضمون تفكيرهم جيدا لكي يقدموه واضحا ومحسوسا، يستطيعون أن يقنعوا بما يقترحونه على ألا يتكلموا إلا لغة البروتون وعلى ألا يتعلموا البلاغة أبدا».

٭ كاتب من فلسطين
[email protected]

أسامة عثمان