أثناء حياته، وحتى بعد سنوات على وفاته ما زال محمود درويش يقيم في مرتبة الأسطورة الشعرية. إذ لا يبدو ممكناً إلى اليوم الاقتراب منه إلا كحالة إلهامية. فجماهيره تريده هكذا محنطاً في معبدها، محفوفاً بهالة من التمجيد. وهو مقام يستحقه بدون شك باعتباره قيمة حياتية متعددة الأبعاد تتجاوز الأدبي والسياسي. إلا أن الملاحظات التي تتناول منجزه الشعري لا يبدو أنها مقبولة ما لم تهدف إلى رفع من رصيده لدى القراء، وتصعّد حضوره الأسطوري.
وكل محاولة لمطالعة شعره خارج هذا السياق لن تجد لها أي صدى وستموت في مكانها. وستحل اللعنة على كل من يحاول أن ينظر إلى رمزيته من زاوية مغايرة. وعلى أقل تقدير سيتهم بالانتماء إلى الجيش الحاقد من الشعراء المغمورين، المنذورين لقتل الأب الشعري الكبير، كما حدث لنصر جميل شعث الذي بدأ الحفر مبكراً في تناصات درويش فتم إسكاته، أو ربما آثر الابتعاد عن هذه البؤرة الوعرة. وهذه هي طبيعة المجتمعات التي تنتخب من رموزها الثقافية والسياسية والإجتماعية فصيلاً لا يطاله النقد.
لم يبدأ الحفر الواعي المجرد من العواطف في منجز درويش الشعري بعد. لأن مساءلته شعرياً تعني في الوعي الفلسطيني، والعربي إلى حد كبير، الطعن في الذات الوطنية الفلسطينية، والمسّ بضمير فلسطين بغض النظر عن مشروعية المجادلة الإبداعية المراد طرحها. وهذا الأمر ليس وليد اليوم بل منذ بروز درويش كشاعر فلسطيني كبير يطمس حضوره ما عداه من شعراء الأرض المحتلة. فقد أخذ عليه غالب هلسا مثلاً انئساره للعرفاتية وتقديم صورة مضللة لفلسطين مختصرة في البرتقال الحزين. وهي رؤية ناقدة في الصميم لاحظت منتجه في بداياته ولا تنطبق على ما آل إليه كشاعر.
ولأنه شاعر الشعب الفلسطيني، من الطبيعي أن يتحول إلى مشروع مقروئية ومساءلة على الدوام، حيث استمرت الضغوط عليه ليضع قصيدته في قفص يتناسب مع مزاج القارىء ومرادات النقاد ومستوجبات اللحظة السياسية. فعندما يسترسل في الكتابة عن وطنه يُتهم بالفلسطنة الزائدة والمتاجرة بالقضية. وعندما ينصرف عن المقاومة إلى حميمياته يُتهم بالتخلي عن أرضه وناسه.
وقد كان يرد على كل تلك المساءلات خارج وداخل قصيدته. إذ يخاطب النقاد في (أثر الفراشة) مثلاً بقوله (يغتالني النقاد أحياناً .. يريدون القصيدة ذاتها .. والاستعارة ذاتها .. فإذا مشيت على طريق جانبي شارداً .. قالوا: لقد خان الطريق .. وإذا عثرت على بلاغة عشبة .. قالوا تخلى عن عناد السنديان .. وإذا رأيت الورد أصفر في الربيع .. تساءلوا أين الدم الوطني في أوراقه).
ومن يقرأ درويش سيجد في منجزه الشعري حوارات مباشرة ضد الاحتلال وإجابات صريحة للقراء الذي يناغيه كهدف مباشر له، خصوصاً على مستوى ما يقال عن غنائيته الفارطة. بالإضافة إلى منظومة من الردود المذابة في النصوص على مجمل ما يتعرض له كشاعر من اتهامات ومناقدات. فهو يحب منازلة الخصوم والأعداء داخل القصيدة كما يلاحظ ذلك حتى في حروبه مع كتاب قصيدة النثر. حيث أبان عن موقفه بتصريحات كثيرة ومثيرة إعلاميا. حيث عبّر عن موقفه الفني منها في نص (كقصيدة نثر) حين قال بالتباسها المربك (صيف خريفي على التلال كقصيدة نثرية).
أما تهمة اقتطاعه لجُمل وعبارات كثيرة من شعراء آخرين فقد كانت مسألة خارج مساجلاته وردوده وكأنه لم يسمع بها، إذ لم يرد على أحد ممن اتهموه بالسطو والسرقة في حياته. وهذا لا يعني بالتأكيد أن الحوار معه هنا قد انقطع بعد رحيله. فهو حوار ممكن ومستحق. فما تركه من منجز كفيل بجدل لا ينتهي. ولكن يبدو أن محبيه لا يريدون لهالته الأدبية أن تتآكل في هذا المفصل بالذات، وهو الذي كان يتحاشى الجدالات حتى لا تتضاءل قيمته وتضيع شاعريته في المهاترات، إلا أن ما يتكشّف يوماً بعد يوم من الخطفات والغارات الدرويشية المتطابقة نصاً ومعنى مع قولات شعراء آخرين يضع جزءاً من منجزه تحت طائلة الشك. فيما يضع مريدوه كل ذلك تحت بند (التناص)، وكأنهم بذلك قد أنهوا الجدل وأخرسوا من يصفونهم بقتلة درويش ومعظمهم من الشعراء الفلسطينيين.
ويبدو أن درويش قد احتسب مبكراً لمثل هذا المساءلات المستحقة فلجأ إلى حيلة التناص لدرجة التباهي بقدرته على إحداث ذلك التمازج الغامض مع أي نص قديم أو حديث. حيث كتب في (المختلف والحقيقي) بأن (التناص أو التداخل النصي – كما يسميه البعض – لا يقلل من أهمية النص الذي ينهض على تخوم نصوص أخرى، فهو لا يلغي خصوصيته الإبداعية بل على العكس يؤكد سماته المتميزة بوصفه نصاً قائماً بذاته تجاوز غيره أو تخطاه).
وهذا التقعيد الفني حول فكرة التناص لا خلاف عليه فهو في صميم بنوّة النص الأدبي القائمة على قاعدة الترافد المتأتية من قلق التأثر. إلا أن المربك يكمن في الطريقة التي يؤدي بها درويش فعل التناص. الذي يشكل جزءاً هاماً من مشروعه الشعري، حيث يعتبر (أن الكتابة الآن هي كتابة على ما كُتب). وهذه قاعدة أدبية معروفة وليست من عندياته. أما كثرة تطابق قولاته الشعرية مع آخرين فتعني إما أنه لا يفهم التناص كما يجب أو أنه أعطى لنفسه حق اجتزاء مقاطع حيوية من قولات الآخرين ونسبها إلى نفسه.
كثيرة هي تناصات درويش، فهو قارىء نهم. ويجيد اقتناص ما يبني عليه من المقروء. كقوله في مجموعته (لا تعتذر عما فعلت) بشيء من الذكاء (وإني وإن كنت الأخير زمانه .. وجدت ما يكفي من الكلمات) ليحدث تناصه الفطن مع بيت أبي العلاء المعري (وإني وإن كنت الأخير زمانه .. لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل) في إشارة إلى إعادة إنتاج الكلمات والأفكار التي يستهلكها البشر على مر الزمان. وهذه مجرد عينة من تداخلات نصية باهرة تُسجل له، خصوصاً أن بيت المعري مؤسس أصلاً على كلام علي ابن أبي طالب (لولا أن الكلام يُعاد لنفذ). إلا أن ما سُجل على درويش من تجاوزات وتطابقات نصّية لا يبدو أنها مقبولة في حقل التناص بأي شكل من الأشكال.
لا أحد من الذين تعرضوا لغزوات درويش النصية يكرهه أو يغار منه، بل العكس، فهم يجلونه ويقدرونه. إلا أنهم يجادلون منجزه بوعي ومسؤولية. وفي هذا الصدد لا بد من استعادة بعض ما رصده الشاعر موسى حوامدة للوقوف على طبيعة ما يصفه المدافعون عن درويش بالتداخل النصي. ففي نص (جدارية) مثلاً، الذي كان أحد منعطفات درويش الشعرية يقول (للولادة وَقْتٌ .. وللموت وقتٌ .. وللصمت وَقْتٌ .. وللنُّطق وقْتٌ .. وللحرب وقْتٌ .. وللصُّلحِ وقْتٌ .. وللوقتِ وقْتٌ .. ولا شيءَ يبقى على حالِهِ).
وهو نص وقع تحت مظلة نص التوراة الكثيف الثقيل لكي لا نقول انه تطابق معه تماماً بدون أي إحالات. حيث جاء في التوراة ( لِكُلِّ شَيْءٍ زَمَانٌ، وَلِكُلِّ أَمْرٍ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ وَقْتٌ: لِلْوِلاَدَةِ وَقْتٌ وَلِلْمَوْتِ وَقْتٌ . لِلْغَرْسِ وَقْتٌ وَلِقَلْعِ الْمَغْرُوسِ وَقْتٌ . لِلْقَتْلِ وَقْتٌ وَلِلشِّفَاءِ وَقْتٌ . لْهَدْمِ وَقْتٌ وَلِلْبِنَاءِ وَقْتٌ . لِلْبُكَاءِ وَقْتٌ وَلِلضَّحْكِ وَقْتٌ . لِلنَّوْحِ وَقْتٌ وَلِلرَّقْصِ وَقْتٌ . لِتَفْرِيقِ الْحِجَارَةِ وَقْتٌ وَلِجَمْعِ الْحِجَارَةِ وَقْتٌ . لِلْمُعَانَقَةِ وَقْتٌ وَلِلانْفِصَالِ عَنِ الْمُعَانَقَةِ وَقْتٌ . لِلْكَسْبِ وَقْتٌ وَلِلْخَسَارَةِ وَقْتٌ . لِلصِّيَانَةِ وَقْتٌ وَلِلطَّرْحِ وَقْتٌ).
وقد يكون أحمد الأشقر مبالغاً ومؤولاً بإفراط في تتبع أثر (التوراتيات في شعر محمود درويش – من المقاومة إلى التسوية). وقد لا نسلّم بكل ما قاله حوامدة عن اختطاف درويش عنوان (مديح الظل) من الياباني جونيشيرو تانيزاكي أو من بورخيس، إذ يمكن أن يكون الأمر مجرد توارد خواطر. كما ينطبق الأمر على (حالة حصار) وهو اسم فيلم لكوستا غافراس. وكذلك (أثر الفراشة) الذي يتقاطع مع نظرية إدوارد لورينتز. وكذلك (الشاعر في الشارع) المأخوذ عن ديوان رفائيل البرتي.
وقد نتخفف من حسّ الرصد والترصُّد فننفي كل تقاطعات درويش مع عبارات صريحة مثبّتة في مجموعات شعرية تم اكتشافها بالصدفة وليس نتيجة حفر نقدي. كقصيدة محمد ضمرة (أحد عشر كوكباً) وديوان محمد القيسي (راية في الريح) التي صارت عنده قصيدة بعد إضافة (لا). كما يمكن أن نقول بأنه ما فعله مع علي فودة مجرد تنويع على مفردة وحركة (الظل).
وربما لا نتوقف كثيراً قبالة ما قاله الشاعر محمود حامد بأن لافتة (في حضرة الغياب) هي عنوان لإحدى قصائده، وكذلك عبارة (سلام أيها العابرون) التي ردّدها درويش. فكل هؤلاء في نهاية المطاف من شعراء فلسطين ويشعرون بالتهميش والضآلة مقابل قامة درويش – من منظور المدافعين عن درويش.
لنتناسى كل أولئك ونسأل عن العبارة التي صارت لصيقة بدرويش. العبارة الثقيلة وجودياً، المنقوشة على شاهدة قبره (على هذه الأرض ما يستحق الحياة) وهي عبارة مستنسخة حرفياً عن نيتشه القائل في أغنية للشرب (على هذه الأرض ما يستحق الحياة: يوم واحد قضيته مع زرادشت علمني أن أحب الأرض). فأي تناص في هذا التطابق!؟ وهل ستظل شخصية محمود درويش تتآكل في ظل ما يتم اكتشافه من انتحالات فيما يصر محبوه على أنها مجرد تناصات!؟
٭ ناقد من السعودية
[email protected]
محمد العباس