"يمكننا أن نجد في الطبيعة البشرية ثلاثة أسباب رئيسة للنزاعات : أولها المنافسة، وثانيها الخوف ، وثالثها الاعتداد." توماس هوبز
ـ1ـ
"نحن كلنا أمريكيون" هي الجملة التي ذاع صيتُها في أوربا غداة أحداث الحادي عشر سبتمبر. ظهرتْ في البداية كعنوان لافتتاحية لصحيفة لموند (13 سبتمبر 2001) ثمّ أضحتْ شعارا/معيارا. ولكن الإلحاح عليها لم يكن كافيا لحجب الانقسام الجذري في الرأي العام الأوربي الذي لم يستطع التخفي طويلاً خلف الأحادية الانفعالية التي حكمتْ الإعلام وصورَه وتغطياته حينها.
ثمّ لم تلبث شرائح واسعة من الرأي العام الأوربي أن ارتدّتْ بشكل أكثر جلاء على السياسة الخارجية للولايات المتحدة مع بدايات الإعلان عن الحرب على العراق. وهو ما تكشّف للعلن في التظاهرات المناهضة للحرب سنة 2003 والتي ربما لم تعرف القارة مثلها منذ الحرب الفيتنامية. وباستثناءات قليلة فإن أشد الأصوات الأوربية تأييداً للسياسة الخارجية الأمريكية اضطرتْ إما إلى مسايرة الرأي العام جزئياً، أو الاختفاء الإعلامي مرحلياً. وهو ما استثمرتْه الديبلوماسيتان الفرنسية والألمانية اللتان ناهضتا الحرب على العراق.
ـ2ـ
في أقل من شهر بعد انهيار البرجيْن التوأمين نشرَ الفرنسي ريجييس دبري كتيبا شبه ساخر بعنوان "مرافعة من أجل الولايات المتحدة الغربية/ مرسوم كاراكلا". لنتذكّر هنا أن هذه "الدعوة" تصدر عن رجل قادم إلى "المحافظة" السياسية من أقصى اليسار : حمل في شبابه السلاح مع تشي غفارا، ومازالتْ الولايات المتحدة إلى الآن تعتبرُه إرهابيا تُحرِّم عليه زيارتَها.
يرمي طبعا العنوان الفرعي للكتيب إلى التذكير بمرسوم الامبراطور الروماني الذي قرّر سنة 212 منح المواطنة الرومانية لكلّ رعايا الامبراطورية من الأحرار. المقارنة هي بين هؤلاء الأخيرين والأوربيين كـ"رعايا" للامبراطورية الأمريكية. بالنسبة لدبري ـ أو "محدِّثه" السردي ـ الولايات المتحدة تقرّرُ بالنسبة للأوربيين وبدلا عنهم فالأفضل لهم إذًا الانضمام إليها ليكون لهم على الأقل حقّ التصويت والانتخاب، "ليستطيعوا رصّ الصفوف أمام القوى الصاعدة للاسلام وللصينّ".
ـ3ـ
نقطتان. أولا، إذا افترضنا صحة المقدمة (الولايات المتحدة تقرر بالنسبة للأوربيين وبدلا عنهم) أليس من الوارد من باب أولى أن نلاحظ أنها تقررّ بالنسبة لكثيرين آخرين؟ تلك بالذات إحدى النقاط التي تهمّ رجيس دبري في الإحالة إلى مرسوم كاراكلا. وإلى المقارنة بين مفهوم "العالم الحر" وأحرار روما. فالإمبراطور الدموي لم يمنح ـ ثلاث مائة سنة بعد ثورة سبارتاكوس ـ المواطنةَ إلا لـ"لأحرار" في امبراطوريةٍ أغلبُ رعاياها مازالوا حينها يخضعون للعبودية.
ثانيا، ماذا يعنيه مشروع الوحدة الأوربية في هذا الأفق ؟ الواقع أن الصيغة الساخرة التي تعتمدُها "مرافعة" دبري موجهةٌ بدرجة أساسية إلى هذا المشروع. فليس "دبري" إلا أحد الأصوات الأقلّ تحفظا بين كثيرين آخرين ناهضوا في السنوات الأخيرة مشروعَ الوحدة الأوربية. يرونه من ناحية مشروعاً "فارغاً" وقضاء على السيادة القومية للدول الأوربية ومن ناحية أخرى مشروعَ تبعية للولايات المتحدة أكثر مما هو مشروع استقلال عنها.
ـ4ـ
الأزمة الاغريقية الحالية بهذا المعنى لم تكن إلا مناسبة جديدة تُظهر، بين أشياء أخرى، عمقَ إشكال العلاقات الأوربية الأمريكية. وكما هو معروف فإن أكثر الضغوط الممارسة ـ خصوصا على ألمانيا ـ للاحتفاظ بالدولة الاغريقية في منطقة اليورو تأتي من الولايات المتحدة. والتقارب الاغريقي الروسي راهنيا له بداهةً دلالات تتجاوز الجانب الاقتصادي والسياسي المباشر. فليس فقط لأنَّ "لا وعيَ" الحرب الباردة ما زال فاعلا ولكن أيضا للتخفوات "الغربية" التقليدية تجاه العالم الأرثودكسي، الفعلي أو المفترض. وهي تخوفات تعود شيئا فشيئا إلى الواجهة بدرجة قد تتجاوز بكثير تلك التي يثيرها العالم الاسلامي. ولكنها مفاراقيا لا تعني إلا مزيدا من الحذر الأمريكي تجاه أوربا.
د. محمد بدي ابنو
مدير مركز الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل