بقلم : عبد الصمد ولد أمبارك
دأبت الحكومة الموريتانية على عقد اتفاقيات صيد مع شركائها في التنمية ،خاصة الاتحاد الأوروبي ،لفترة سنتين قابلة للتجديد ، وهي الاتفاقيات التي ظلت مجالا للأخذ والرد طيلة العقود الماضية ،نتيجة عدم وجود سياسة اقتصادية واضحة المعالم ،تفضي بالبلد إلى نهج اقتصادي سليم ، يجنب الثروة الوطنية أن تظل عرضة للأغراض الخفية والتلاعب الممنهج ذو الأبعاد المتنوعة ، حتى أضحى قطاع الصيد مرتعا للنهب والاستغلال المفرط من جهة ،مع اختفاء الخبرات الوطنية القادرة على صيانة وخلق التسيير الأمثل من جهة أخرى ، قصد حماية الثروة البحرية ،على غرار ما يحدث مع جيراننا في الشمال و الجنوب (المغرب،السنغال،غينيا بيساو ) على الرغم من اختلاف الظروف وتفوق المخزون الوطني وتنوع أجناسه وارتفاع أسعاره عالميا مع تزايد الطلب عليه في السوق الدولية والإقليمية.
فالاتفاق الجديد بين موريتانيا والاتحاد الأوروبي ،الموقع صبيحة العاشر من يوليو 2015 ،خلق الكثير من القيل والقال ،من طرف بعض الفاعلين الاقتصاديين و المسؤولين الكبار وحتى بعض رجال السياسة ،ممن يتابع النمو المضطرد لقطاع الصيد البحري ، على الرغم من الارتياح الواسع داخل أوساط النخب و فعاليات المجتمع المدني ،من نقابات وتنظيمات عمالية معنية بالقطاع نفسه.
لعل الظرفية السياسية الجديدة المجسدة في ديناميكية أوروبية ،للحصول على صيد مستديم والتي قوبلت من الجانب الموريتاني بإرادة سياسية هادفة في نفس المسعى ، قلصت مخاطر اللعبة بالنسبة لموريتانيا التي تبحث عن حسن تسيير مصدرها الوحيد المتجدد ،المهاجر في نفس الوقت.
فالاتفاق الجديد بدون شك خلق مجالا واسعا من التفاهم والموضوعية ،وكذا المر دودية الذاتية على كلا الجانبين ، مما يعطي الانطباع بضرورة إشراف السلطات على التمسك به من جهة ،مع دفع الجانب الأوروبي إلى نهج للشراكة المعقلنة والمبنية على الثقة المطلقة المتبادلة بين الشريكين الاستراتيجيين في منطقة الأطلسي ،قصد قيام سياسة اقتصادية وطنية موجهة للصيد ،مبنية على حماية الثروة الوطنية وعقلنة مجهود الصيد ودمجه في الاقتصاد الوطني ،كعائد ثابت قابل لتأسيس منظومة جديدة ،مع توفير الآليات الكفيلة بتطوير القطاع والاعتماد عليه في خلق فرص العمل وتوسيع الهياكل الاقتصادية ،القادرة على امتصاص البطالة والحد من ظاهرة الفقر وتحقيق نمو اقتصادي مرضي ،يتماشى مع حجم ثروتنا السمكية من مخزون المصايد المتنوعة.
لعل أهم الملامح التي تميز بها الاتفاق الجديد في مجال الصيد بين موريتانيا والاتحاد الأوروبي ، تبرز من خلال نقاط عدة ،يأتي في مقدمتها زيادة المدة الزمنية التي تحولت الي أربع سنوات قابلة للتجديد ،بدل سنتين التي كان معمولا بها في السابق.التشغيل وإلزامية تخصيص نسب %60من الطواقم البحرية الوطنية على متن الأساطيل الأوروبية ،بالإضافة إلى إتباع سياسة التفريغ داخل الموانئ الوطنية في العاصمة الاقتصادية انواذيبوا لأسماك القاع ، مع ما توفره من فرص الإنتاج والمر دودية على اختلاف الأنشطة المدرة للدخل واتساع في الحركية التجارية داخل السوق المحلية،بالإضافة الي القيمة المضافة علي المنتج الوطني. في حين يظل غياب بند متعلق بإقامة مصانع علي الأراضي الموريتانية، خاصة بالمعالجة و التحويل و التخزين من أهم الثغرات التي تنقص البروتوكول الجديد.
كما أن الاستثناء الواضح لفئات الرخويات (الإخطبوط ) و السردينلا المطلوبين في السوق اليابانية ،يشكل هو الآخر أحد الركائز الجديدة ،لدفع عجلة تطوير القدرات الوطنية ،من خلال تشجيع الصيد التقليدي وكذلك ترقية دور الشركة الموريتانية لتسويق الأسماك (SMCP) ،حتى تضطلع بالدور المنوط بها والمجسد في احتكار تسويق الثروة السمكية وضمان دخول العملات الصعبة من مردود السوقين الأوروبي والياباني، الشيء الذي سيكون له الأثر الإيجابي على عائدات اقتصادنا الوطني.
يوفر الاتفاق الجديد إطارا للتعاون المثمر بين الطرفين الموريتاني والأوروبي ،يظهر امتيازات جديدة تعد أرض خصبة للتبادل التجاري الدائم والمستديم ، كما أحرزت الحكومة الموريتانية ،إضافة إلى الوسائل المادية والنقدية ،من خلال المقايضة المالية (compensation financière) التي تجاوزت 100مليون يورو سنويا ،يدفع منها الإتحاد الأوروبي 55 مليون يورو مقابل ان تدفع السفن بقية المبلغ،على حزمة من الإجراءات العملية ذات النفع على مستقبل القطاع ،من أهمها مراجعة الوعاء الضريبي ،على أساس كمية الأطنان المصطادة ،بدل حمولة البواخر (GT) أو حجم البواخر (TJB) الذي كان معتمدا ، بما فيه من خسائر للبلد .
كما تمت مراجعة المنطقة الإقليمية الخالصة للصيد المرخص بها (ZONAGE) ، حيث اعتمد مقدار 20 ميل كمسافة الأسماك السطحية ، مما كان له الأثر من ناحية قد تؤدي إلى الاحتفاظ ب 3% من المصائد الخاطئة والغير مؤذن فيها في رخص الصيد ، على الرغم أنها ظلت عرضة للنهب بدون رقيب ولا أية ضمانات ملزمة للجانب الأوروبي، مع تخفيض النسبة المسموح باصطيادها من طرف الأوروبيين من 300 ألف طن الي 225 ألف طن سنويا .
استمرار تحصيل إتاوة عينية علي السفن الأوروبية بواقع 2 % من الكمية المصطادة ،مع تخصيص الحصة لتعزيز الأمن الغذائي،عبر التوزيع المجاني و البيع بأسعار رمزية في مختلف مناطق البلاد،قصد تشجيع عادة استهلاك الأسماك من ضمن أمور أخري.
هذا الاتفاق على الرغم مما سلط عليه من الدعاية الإعلامية المفرطة ، يشكل بالنسبة لسابقه إطارا مواتيا لكلا الطرفين ونموذج للتعاون الاقتصادي المثمر والبناء ،حافظ من جهة علي المصالح الاقتصادية لموريتانيا مع تبنيه من قبل الشريك الإستراتيجي المتمثل في الإتحاد الأوروبي. قابل للتطوير مع اعتماد مقاربات أكثر شمولية وتشاركيه ، عند توفر الكادر البشري المؤهل ،لقيادة قطاع الصيد البحري نحو اندماج حقيقي داخل الاقتصاد الوطني،من خلال مساهمته في حوالي 40 % من حجم الصادرات الوطنية و %6 من الناتج الداخلي الخام PIB،مع الاعتماد على ثرواتنا السمكية كمصدر للاستثمار والتمويل الموجه لإنعاش مختلف السياسات الاقتصادية الناجعة في البلد.
إن قطاع الصيد اليوم يحتاج الي وضع سياسة اقتصادية متكاملة،علي ضوء التطورات التي أتاحت للقطاع تحديد المحاور الكبري لإستراتيجية الاستصلاح و التنمية ،الخاصة بقطاع الصيد و الاقتصاد البحري ،مع إدماج اهتمامات مختلف الشركاء في التنمية. يمكن تطبيق هذه الإستراتيجية من إدخال القطاع في مرحلة انطلاق ،تتميز بتسيير عقلاني للموارد و اندماج أكبر للقطاع في الاقتصاد الوطني.في هذا الإطار أصبح من الضروري تحيين هذه الإستراتيجية حتى نتسنى مواصلتها ،مع مراعاة التطورات المسجلة،سبيلا الي إدخال القطاع في مرحلة نمو حقيقي.فموريتانيا من أغني البلدان بالأسماك،تمتلك منطقة اقتصادية بحرية تقدر ب 234 ألف كيلومتر مربع علي طول 650 كيلومتر من الشواطئ المتنوعة،غنية بالمصايد العالية الجودة.