تختارُ بعض الفتيات الموريتانيات الهرب من عائلاتهن للتخلّص ممّا يتعرضن له من معاملة سيئة وغيرها من المشاكل. ويصبح الفرار أفضل حل للمشاكل والخلافات العائلية التي تواجههن. إلا أن ظاهرة اختفاء الفتيات هذه تشغل الباحثين في موريتانيا في ظل زيادة أعدادهن، يوماً بعد يوم، حتى أنهم حذروا من انعكاسات تجاهلها على المجتمع الذي ما زال يرى أن الفتاة هي "رمز الشرف" في أسرتها، وغيابها يعني ضياع سمعة الأسرة.
وعلى الرغم من عدم وجود إحصائيات رسمية تُبيّن حجم الظاهرة، إلا أن سجلات الشرطة والصحف تؤكد انتشار ظاهرة فرار الفتيات على نطاق واسع، وخصوصاً المراهقات. في السياق نفسه، يُشير عدد من الباحثين إلى أن الظاهرة تزداد باستمرار بفعل تفاقم الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، ودخول الفتيات في علاقات عاطفية، وتأثرهن بانفتاح المجتمع والحرية الممنوحة للشباب، بالإضافة إلى انتشار وسائل التواصل الاجتماعي.
قبل نحو سبعة أشهر، فقدت أسرة عبدود، الابنة مريم (17 عاماً)، التي فضلت الفرار بسبب الفقر وكثرة المشاكل داخل البيت واستمرار الخلافات بين أفراده. اختارت مريم التمرّد على عائلتها المكونة من أب وأم وخمسة أشقاء، بعدما استغلّت انشغال والدتها بالعمل وغياب الأب عن البيت، لتجمع ملابسها وأغراضها وتفرّ من البيت بحثاً عن حياة أخرى ومحيط يؤمن لها كل ما عجزت عائلتها عن تأمينه.
تقول والدة مريم هاوا أ، لـ "العربي الجديد" إنه كان عليها أن تتنبأ بمصير ابنتها، التي حاولت مراراً الضغط على أسرتها من خلال الفرار من البيت والاختباء عند خالتها أو إحدى صديقاتها. في كل مرة، كانت تعيدها الأم من دون أن تسمح لأحد بمعاقبتها على الفرار من البيت. وتوضح أنه "حين تختلف مع أحد أشقائها أو ترفض الامتثال للأوامر بالعودة إلى البيت باكراً، كانت تترك المنزل. في البداية، كانت تلجأ إلى الشوارع القريبة من البيت، بعدها صارت تهرب إلى بيت خالتها ثم إلى بيوت صديقاتها".
وعن تفاصيل حادث اختفاء مريم الأخير، تقول هاوا: "قبل اختفائها بمدة، لاحظت تغيراً في سلوكها، حتى أنها صارت إيجابية. فسّرت الأمر على أنه تجاوز لمرحلة المراهقة، ومن الطبيعي أن تصير أكثر تعقلاً. لكنني كنت مخطئة، إذ ما لبثت أن عادت إلى سلوكها السيء والتمرد واختلاق المشاكل مع أقاربها، وخصوصاً بعدما رفضت طلبها السفر مع صديقتها للاحتفال برأس السنة في السينغال".
تضيف الأم أنه قبل منتصف ديسمبر/كانون الأول، غادرت مريم البيت بعدما جمعت أغراضها، لتختفي عن الأنظار. أما عائلتها، فعانت طويلاً في البحث عنها، وتبرير غيابها للناس. أخيراً، اتصلت مريم بعائلتها لتطمئنهم عنها، وطلبت منهم نسيانها لأنها أصبحت مستقلّة عنهم ولن تعود قبل تحقيق أحلامها.
بدورها، هربت صفية بنت س. (20 عاماً) من منزل عائلتها بسبب قسوة الأهل، وخصوصاً الوالد. وتقول فاطمة (38 عاماً)، التي تسكن على مقربة من العائلة، إن "العنف الأسري كان سبباً رئيسياً لفرار صفية التي عانت منذ طفولتها من العنف وسوء المعاملة ومصادرة حقوقها البسيطة". تضيف أن "والدها وأشقاءها منعوها من إكمال دراستها واختيار شريك حياتها، بعدما رفضوا ارتباطها بمن تحب لعدم تكافؤ النسب. وتعرضت لضرب مبرح بسبب إصرارها عليه". وتشير إلى أن عائلتها ترفض الحديث عن الموضوع بعدما بحثت عنها كثيراً وفقدت الأمل في عودتها. في المقابل، تعاني شقيقاتها من تبعات هروبها، فقد فرضت عليهن العائلة قيوداً شديدة، وأرغمت اثنتين على الزواج من أبناء عمومتهما خشية أن تتمردا وتختارا أزواجاً غير مناسبين بحسب العرف الاجتماعي".
إلى ذلك، يرى عدد من الباحثين أن الضغط الأسري والخلافات العائلية والتأثر بالأنماط الغربية جميعها عوامل تساهم في ازدياد ظاهرة هروب الفتيات. ويلفتون إلى أن المجتمع الموريتاني عادة ما يتشبث بالقيم والأعراف الاجتماعية القديمة، كالخوف الزائد على الفتاة، ما يؤدي إلى تقييد حريتها ومصادرة حقها في اختيار الزوج المناسب.
ويقول الباحث الاجتماعي، سيد أحمد ولد الناجي، إن "المشاكل الأسرية والضغوطات تدفع بعض الفتيات إلى الهرب من عائلاتهن، ظناً منهن أن ذلك قد ينهي معاناتهن ويمكنهن من تحقيق الحرية والاستقلالية". يضيف أن "سوء المعاملة والإحساس بالقهر وغياب التواصل والتفاهم بين الفتاة وعائلتها، يدفعها إلى التفكير جدياً بالفرار". مشيراً إلى أن العامل المادي يعدّ سبباً رئيسياً لهروب الفتيات. ويلفت إلى أن معظم الهاربات يتذمّرن من الحرمان والفقر الذي يعشنه، ويتطلعن إلى تحسين أوضاعهن المادية.
ويُطالب الناجي بمعالجة هذه الظاهرة بحكمة وتعقل، ومراعاة نفسية الفتيات، وخصوصاً المراهقات اللواتي يعشن مشاعر متقلبة. ويرى أن الحوار والتواصل بين الفتاة وعائلتها، وحل المشاكل بحكمة، وتأمين جو صحي للتربية السليمة بعيداً عن المشاحنات والعنف، كفيل بالحد من هذه الظاهرة الغريبة على المجتمع. وإلى أن تصبح العائلات أكثر تفهماً لحاجات الفتاة ومشاكلها، قد تستمر هذه الظاهرة.